عبادة الإمام موسى بن جعفر
قال الخطيب البغدادي: «روى أصحابنا: أنه دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسجد سجدةً في أول الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: عظم الذنب عندي فليحسن العفو عندك، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة، فجعل يردّدها حتى أصبح»(1).
وروى بإسناده عن عمّار بن أبان، قال: «حبس أبو الحسن موسى بن جعفر عند السندي، فسألته أخته أن تتولّى حبسه ـ وكانت تتديّن ـ ففعل، فكانت تلي خدمته فحكي لنا أنها قالت: كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعاه، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل، فإذا زال الليل قام يصلي حتى يصلي الصبح، ثم يذكر قليلا حتى تطلع الشمس، ثم يقعد الى ارتفاع الضحى ثم يتهيّأ ويستاك ويأكل، ثم يرقد الى قبل الزوال، ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه، فكانت أخت السندي إذا نظرت اليه قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل، وكان عبداً صالحاً»(2).
روى ابن شهر آشوب: «كانت لموسى بن جعفر بضع عشرة سنة كل يوم سجدة بعد ابيضاض الشمس الى وقت الزوال، وكان عليه السّلام أحسن النّاس صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ يحزن ويبكي السامعون لتلاوته، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع.
روى أحمد بن عبد الله عن أبيه قال: «دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالسٌ على سطح فقال لي: اشرف على هذا البيت وانظر ماترى؟ فقلت: ثوباً مطروحاً فقال: أنظر حسناً، فتأملت فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه، هو موسى بن جعفر أتفقّده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات الاّ على هذه الحالة. انه يصلي الفجر فيعقب الى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكل من يترصد أوقات الصلاة فإذا أخبره وثب يصلي من غير تجديد وضوء وهو دأبه فإذا صلى العتمة افطر ثم يجدد الوضوء ثم يسجد، فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر.
وقال بعض عيونه: كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه: اللهم إني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد.
وكان عليه السّلام يقول في سجوده: قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو والتجاوز من عندك.
ومن دعائه: اللهم اني أسالك الرّاحة عند الموت والعفو عند الحساب»(3).
روى إبراهيم بن عبد الحميد قال: «دخلت على أبي الحسن الأول عليه السلام في بيته الذي كان يصلي فيه، فإذا ليس في البيت شيء إلا حصفة وسيف معلق ومصحف»(4).
قال المفيد: «وروي أنه كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثم يعقب حتى تطلع الشمس ويخرّ لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتى يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً فيقول: اللهم اني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب، ويكرر ذلك. وكان من دعائه عليه السّلام: عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك.
وكان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل فيحمل اليهم الزنبيل فيه العين والورق والأدقّة والتمور فيوصل اليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو»(5).
روى السيد ابن طاووس: «لمّا همّ هارون الرشيد بقتل موسى بن جعفر عليهما السلام دعا الفضل بن الربيع وقال له: قد وقعت لي اليك حاجة أسألك أن تقضيها ولك مائة ألف درهم قال: فخرّ الفضل عند ذلك ساجداً وقال: أمراً أم مسألة؟ قال: بل مسألة ثم قال: أمرت بأن تحمل الى دارك في هذه الساعة مائة ألف درهم وأسألك أن تصير الى دار موسى بن جعفر وتأتيني برأسه.
قال الفضل: فذهبت الى ذلك البيت فرأيت فيه موسى بن جعفر وهو قائم يصلي فجلست حتى قضى صلاته وأقبل اليّ وتبسم وقال: عرفت لماذا حضرت، أمهلني حتى أصلي ركعتين. قال: فأمهلته فقام وتوضأ فأسبغ الوضوء وصلى ركعتين وأتم الصلاة بحسن ركوعها وسجودها وقرأ خلف صلاته بهذا الحرز فاندرس وساخ في مكانه فلا أدري أرض ابتلعته أم سماء اختطفته، فذهبت الى هارون وقصصت عليه القصّة، قال: فبكى هارون الرشيد ثم قال: قد أجاره الله مني»(6).
وروى عن عبد الله بن مالك الخزاعي، قال: «دعاني هارون الرشيد فقال: يا أبا عبد الله كيف أنت وموضع السر منك؟ فقلت: يا أميرالمؤمنين ما أنا الاّ عبدٌ من عبيدك فقال: امض الى تلك الحجرة وخذ من فيها واحتفظ به إلى أن اسألك عنه فقال: دخلت فوجدت موسى بن جعفر فلما رآني سلمت عليه وحملته على دابتي الى منزلي، فأدخلته داري وجعلته مع حرمي وقفلت عليه والمفتاح معي، وكنت أتولّى خدمته، ومضت الأيام فلم أشعر الاّ برسول الرشيد يقول: أجب أميرالمؤمنين، فنهضت ودخلت عليه وهو جالسٌ وعن يمينه فراش وعن يساره فراش، فسلمت عليه فلم يردّ غير انه قال: ما فعلت بالوديعة؟ فكأني لم افهم ما قال، فقال: ما فعل صاحبك؟ فقلت: صالح فقال: امض اليه وادفع اليه ثلاثة الاف درهم واصرفه الى منزله وأهله، فقمت وهممت بالانصراف فقال: اتدري ما السبب في ذلك وما هو؟ قلت: لا يا أميرالمؤمنين، فقال: نمت على الفراش الذي عن يميني فرأيت في منامي قائلا يقول لي: يا هارون، أطلق موسى ابن جعفر، فانتبهت فقلت لعلها لما في نفسي منه فقمت الى هذا الفراش الآخر فرأيت ذلك الشخص بعينه وهو يقول: يا هارون أمرتك أن تطلق موسى بن جعفر فلم تفعل، فانتبهت وتعوّذت من الشيطان، ثم قمت الى هذا الفراش الذي أنا عليه وإذا بذلك الشخص بعينه وبيده حربة كأن أولها بالمشرق وآخرها بالمغرب وقد أومأ اليّ وهو يقول: والله يا هارون، لئن لم تطلق موسى بن جعفر لأضعن هذه الحربة في صدرك واطلعها من ظهرك، فأرسلت اليك فامض فيما أمرتك به ولا تظهره الى أحد فأقتلك فانظر لنفسك، قال: فرجعت الى منزلي وفتحت الجرة ودخلت على موسى بن جعفر، فوجدته قد نام في سجوده فجلست حتى استيقظ ورفع رأسه وقال: يا عبد الله افعل ما أمرت به، فقلت له: يا مولاي سألتك بالله وبحق جدك رسول الله هل دعوت الله عزوجل في يومك هذا بالفرج؟ فقال: أجل اني صليت المفروضة وسجدت وغفوت في سجودي فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا موسى أتحب أن تطلق؟ فقلت: نعم يا رسول الله، فقال: ادع بهذا الدعاء:
يا سابغ النعم، يا دافع النقم، يا بارىء النسم، يا مجلي الهمم، ويا مغشى الظلم، يا كاشف الضر والألم، يا ذا الجود والكرم، ويا سامع كل صوت، ويا مدرك كل فوت، ويا محيي العظام وهي رميمٌ ومنشئها بعد الموت، صل على محمّد وآل محمّد واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً يا ذا الجلال والإكرام، فلقد دعوت به ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يلقنّيه حتى سمعتك.
فقلت: قد استجاب الله منك، ثم قلت له ما أمرني به الرشيد واعطيته ذلك»(7).
(1) تاريخ بغداد ج13 ص27.
(2) تاريخ بغداد ج13 ص31.
(3) المناقب ج4 ص318.
(4) قرب الاسناد ص160.
(5) الارشاد ص277 ورواه الطبرسي في اعلام الورى ص306.
(6) مهج الدعوات ص29.
(7) مهج الدعوات ص305.