شهادة الإمام موسى بن جعفر
قال ابن الطقطقا: «كان بعض حساد موسى بن جعفر من أقاربه قد وشى به إلى الرشيد وقال له: ان الناس يحملون الى موسى خمس أموالهم، ويعتقدون إمامته، وأنه على عزم الخروج عليك، وكثر في القول، فوقع ذلك عند الرشيد بموقع أهمّه وأقلقه، ثم اعطى الواشي مالا احاله به على البلاد، فلم يستمتع به، وما وصل المال من البلاد الاّ وقد مرض مرضة شديدة ومات فيها.
واما الرشيد فانه حج في تلك السنة، فلما ورد المدينة قبض على موسى بن جعفر عليهما السلام وحمله في قبة الى بغداد فحبسه عند السندي بن شاهك، وكان الرشيد بالرقّة فأمر بقتله فقتل قتلا خفيّاً، ثم ادخلوا عليه جماعة من العدول بالكرخ ليشاهدوه اظهاراً أنه مات حتف أنفه صلوات الله عليه وسلامه»(1).
قال اليعقوبي: «قيل لموسى بن جعفر وهو في الحبس: لو كتبت الى فلان يكلم فيك الرشيد فقال: حدثني أبي عن آبائه، أن الله عزّوجل أوحى إلى داود، يا داود أنه ما اعتصم عبدٌ من عبادي بأحد من خلقي دوني عرفت ذلك منه إلا قطعت عنه أسباب السماء وأسخت الأرض من تحته»(2).
روى الخطيب باسناده عن محمّد بن اسماعيل، قال: «بعث موسى بن جعفر الى الرشيد من الحبس رسالة كانت: انه لن ينقضي عني يوم من البلاء الاّ انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نقضى جميعاً الى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون»(3).
روى السيوطي باسناده عن اسحاق الهاشمي قال: «كنا عند الرشيد، فقال: بلغني أن العامة يظنون فيّ بغض علي بن أبي طالب، ووالله ما أحب أحداً حبي له، ولكن هؤلاء أشد الناس بغضاً لنا وطعناً علينا وسعياً في فساد ملكنا بعد أخذنا بثأرهم ومساهمتنا اياهم ما حويناه، حتى أنهم لأميل الى بني أمية منهم الينا فأما ولده لصلبه فهم سادة الأهل والسابقون الى الفضل، ولقد حدثني أبي المهدي عن أبيه المنصور عن محمّد بن علي عن أبيه عن ابن عباس أنه سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في الحسن والحسين: من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني. وسمعه يقول: فاطمة سيدة نساء العالمين غير مريم ابنة عمران وآسية بنتمزاحم»(4).
روى ابن الصباغ المالكي، عن محمّد بن علي النوفلي، قال: «كان السبب في أخذ الرشيد موسى بن جعفر وحبسه أنه سعى به اليه جماعة، وقالوا: ان الأموال تحمل اليه من جميع الجهات والزكوات والأخماس، وانه اشترى ضيعة سماها التيسيريّة بثلاثين ألف دينار، فخرج الرشيد في تلك السنة يريد الحج وبدأ بدخوله الى المدينة، فلما أتاها استقبله موسى بن جعفر في جماعة من الأشراف، فلما دخلها واستقر ومضى كل الى سبيله، ذهب موسى على جاري عادته الى المسجد وأقام الرشيد الى الليل وسار الى قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله اني اعتذر اليك من أمر أريد أن افعله وهو أن أمسك موسى بن جعفر، فانه يريد التشعيب بين أمتك وسفك دمائهم وإني أريد حقنها، ثم خرج فأمر به فأخذ من المسجد ودخل به اليه فقيّده في تلك الساعة واستدعى بقبتين، فجعل كل واحدة منهما على بغل، فجعله في احدى القبتين وسترها بالسقلاط وجعل مع كل واحد منهما خيلا، وأرسل بواحدة منهما على طريق البصرة وبواحدة على طريق الكوفة، وانما فعل الرشيد ذلك ليعمي أمره على الناس.
وكان موسى الكاظم في القبة التي أرسل بها على طريق البصرة، وأوصى القوم الذين كانوا معه أن يسلموه الى عيسى بن جعفر بن منصور وكان على البصرة يومئذ والياً، فسلموه اليه فتسلمه منهم وحبسه عنده سنة فبعد السنة كتب اليه الرشيد في سفك دمه واراحته منه، فاستدعى عيسى بن جعفر بعض خواصه وثقاته اللائذين به والناصحين له فاستشارهم بعد أن اراهم ما كتب به اليه الرشيد،فقالوا: نشير عليك بالاستعفاء من ذلك وأن لا تقع فيه، فكتب عيسى بن جعفر الى الرشيد، يقول: يا أمير المؤمنين كتبت اليّ في هذا الرجل وقد اختبرته طول مقامه في حبسي بمن حبسته معه عيناً عليه لينظروا حيلته وأمره وطويته بمن له المعرفة والدراية ويجري من الانسان مجرى الدم، فلم يكن منه سوء قط ولم يذكر أمير المؤمنين الاّ بخير، ولم يكن عنده تطلع الى ولاية ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا ولا قط دعا على أمير المؤمنين ولا على أحد من الناس، ولا يدعو الاّ بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين، مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره وينفذ من يتسلمه مني والاّ سرحت سبيله فاني منه في غاية الحرج. وروي أن شخصاً من بعض العيون التي كانت عليه في السجن رفع الى عيسى بن جعفر أنه سمعه يقول في دعائه: اللهم انك تعلم أني كنت اسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد.
فلما بلغ الرشيد كتاب عيسى بن جعفر كتب الى السندي بن شاهك أن يتسلم موسى بن جعفر الكاظم من عيسى وأمره فيه بأمره فكان الذي تولى به قتله السندي أن يجعل له سماً في طعام وقدمه اليه، وقيل في رطب، فأكل منه موسى بن جعفر عليه السّلام، ثم أنه اقام موعوكاً ثلاثة أيام ومات. ولما مات موسى بن جعفر عليه السّلام ادخل السندي بن شاهك لعنه الله الفقهاء ووجوه الناس من أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره ينظرون اليه أنه ليس به أثر من جراح أو مغل أو خنق وأنه مات حتف أنفه، وقد كان قوم زعموا في أيام موسى الكاظم عليه السّلام أنه هو القائم المنتظر وجعلوا حبسه هو الغيبة المذكورة للقائم، فأمر يحيى بن خالد أن يوضع على الجسر ببغداد وأن ينادى: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا اليه ميتاً، فنظر الناس اليه، ثم انه حمل ودفن في مقابر قريش بباب التبن»(5).
قال ابن الصباغ: «كانت وفاة أبي الحسن موسى الكاظم عليه السّلام لخمس بقين من شهر رجب الفرد سنة ثلاث وثمانين ومائة، وله من العمر خمس وخمسون سنة، كان مقامه منها مع أبيه عشرين سنة وبقي بعد وفاة أبيه خمساً وثلاثين سنة وهي مدة امامته»(6).
قال ابن عنبة: «مضى الرشيد الى الشام فأمر يحيى بن خالد السندي بقتله فقيل انه سم وقيل بل غمر في بساط ولف حتى مات ثم أخرج للناس، وعمل محضراً أنه مات حتف أنفه، وترك ثلاثة أيام على الطريق يأتي من يأتي فينظر إليه ثم يكتب في المحضر ودفن بمقابر قريش»(7).
قال هند وشاه بن سنجر: «روى الشيعة لما أخرجوا جثمان الإمام موسى بن جعفر كانوا ينادون إمام الرفضة مات حتف أنفه، وكان أحمد بن حنبل حاضراً وكان يبكي خفية ولما قالوا: مات إمام الرفضة قال: لا والله بل مات إمام المغرب والمشرق»(8).
قال السيد ابن طاووس: «الصلاة عليه بالتعابير الخاصة به: اللهم صلّ على محمّد وأهل بيته وصلّ على موسى بن جعفر وصي الأبرار وإمام الأخيار وعيبة الأنوار ووارث السكينة والوقار والحكم والآثار، الذي كان يحيي الليل بالسهر الى السحر بمواصلة الاستغفار، حليف السجدة الطويلة والدموع الغزيرة، والمناجاة الكثيرة، والضراعات المتصلة، ومقرّ النهى والعدل، والخير والفضل، والندى والبذل ومألف البلوى والصبر والمضطهد بالظلم، والمقبور بالجور والمعذب في قعر السجون وظلم المطامير، ذي الساق المرضوض بحلق القيود والجنازة المنادى عليها بذلّ الاستخفاف، والوارد على جده المصطفى وأبيه المرتضى وأمه سيدة النساء بارث مغصوب وولاء مسلوب وأمر مغلوب ودم مطلوب وسم مشروب. اللهم وكما صبر على غليظ المحن وتجرع غصص الكرب واستسلم لرضاك وأخلص الطاعة لك ومحض الخشوع واستشعر الخضوع وعادى البدعة وأهلها ولم يلحقه في شيء من أوامرك ونواهيك لومة لائم، صل عليه صلاة ناميةً منيفةً زاكيةً توجب له بها شفاعة أمم من خلقك وقرون من براياك، وبلغه منا تحيةً وسلاماً وآتنا من لدنك في موالاته فضلا واحساناً ومغفرةً ورضواناً، انك ذو الفضل العميم والتجاوز العظيم برحمتك يا ارحم الراحمين»(9).
(1) الفخري ص196.
(2) تاريخ اليعقوبي ج3 ص151.
(3) تاريخ بغداد ج13 ص32.
(4) تاريخ الخلفاء ص293.
(5) الفصول المهمة ص238.
(6) الفصول المهمة ص241.
(7) عمدة الطالب ص196.
(8) تجارب السلف ص140.
(9) مصباح الزائر ـ مخطوط.