شهادة الإمام العسكري
قال أبو الأديان: «كنت أخدم الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى ابن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام واحمل كتبه الى الأمصار، فدخلت عليه في علّته التي توفي فيها صلوات الله عليه فكتب معي كتباً وقال: امض بها الى المدائن فانك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل الى سر من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل، قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي فإذا كان ذلك فمن؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم من بعدي، فقلت: زدني، فقال: من يصلي عليَّ فهو القائم بعدي. فقلت: زدني، فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي. ثم منعتني هيبته أن أسأله عما في الهميان.
وخرجت بالكتب الى المدائن وأخذت جواباتها ودخلت سرّ من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي عليه السّلام، فإذا أنا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار والشيعة من حوله يعزّونه ويهنؤنه، فقلت في نفسي: ان يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة، لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور، فتقدمت فعزيت وهنّيت فلم يسألني عن شيء، ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كفّن أخوك فقم وصل عليه فدخل جعفر ابن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة، فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفناً فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما همّ بالتكبير خرج صبيٌّ بوجهه سمرة بشعره قطط بأسنانه تفليج فجذب برداء جعفر بن علي وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر وقد اربد وجهه واصفرّ. فتقدم الصبي وصلّى عليه ودفن الى جانب قبر أبيه عليهما السلام.
ثم قال: يا بصري هات جوابات الكتب التي معك فدفعتها اليه، فقلت في نفسي: هذه بيّنتان، بقي الهميان، ثم خرجت الى جعفر بن علي وهو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي من الصبي لنقيم الحجّة عليه؟ فقال: والله ما رأيته قطّ ولا اعرفه فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي فعرفوا موته فقالوا: فمن نعزي؟ فأشار الناس الى جعفر بن علي فسلّموا عليه وعزّوه وهنّوه وقالوا: ان معنا كتباً ومالا، فنقول ممن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منا أن نعلم الغيب.
قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان وفلان وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطليّة، فدفعوا اليه الكتب والمال وقالوا: الذي وجّه بك لأخذ ذلك هو الإمام.
فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك، فوجّه المعتمد بخدمه فقبضوا على صيقل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته وادّعت حبلا بها لتغطّي حال الصبي، فسلّمت الى ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين»(1).
قال أحمد بن مصقلة: «دخلت على أبي محمّد عليه السّلام فقال لي: يا أحمد ما كان حالكم فيما كان الناس فيه من الشك والارتياب، فقلت: لما ورد الكتاب بخبر مولد سيدنا عليه السّلام لم يبق منّا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم الاّ قال بالحق، قال عليه السّلام: اما علمتم ان الأرض لا تخلو من حجة لله؟ ثم أمر أبو محمّد والدته بالحج في سنة تسع وخمسين ومائتين وعرفها ما يناله في سنة ستين، ثم سلّم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح الى القائم الصاحب عليه السّلام وخرجت أم أبي محمّد عليه السّلام إلى مكة وقبض أبو محمّد في شهر ربيع الآخر سنة ستين ومائتين ودفن بسر من رأى الى جانب أبيه أبي الحسن عليه السّلام، وكان من مولده الى وقت مصيبته عليه السّلام تسع وعشرون سنة»(2).
روى محمّد بن أبي الزعفران عن أم أبي محمّد عليه السّلام قالت: «قال لي أبو محمّد يوماً من الأيام: تصيبني في سنة ستين حرارة أخاف أن أنكب فيها نكبة فان سلمت منها فالى سنة سبعين، قالت فأظهرت الجزع وبكيت فقال لي: لا بد لي من وقوع أمر الله فلا تجزعي، فلما ان كان أيام صفر أخذها المقيم المقعد وجعلت تقوم وتقعد وتخرج في الاحايين الى الجبل تجسّس الأخبار حتى ورد عليها الخبر»(3).
قال أبو سهل اسماعيل بن عليّ النوبختي: «دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ عليه السّلام في المرضة التي مات فيها وأنا عنده إذ قال لخادمه عقيد ـ وكان الخادم أسود نوبياً ـ قد خدم من قبله عليّ بن محمّد وهو ربى الحسن عليه السّلام، فقال له: يا عقيد أغل لي ماء بمصطكي فأغلى له، ثم جاءت به صيقل الجارية أم الخلف عليه السّلام، فلما صار القدح في يديه وهمّ بشربه فجعلت يده ترتعد حتى ضرب القدح ثنايا الحسن فتركه من يده وقال لعقيد: أدخل البيت فانك ترى صبياً ساجداً فائتني به. قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرّى فإذا أنا بصبي ساجد رافع سبابته نحو السماء فسلمت عليه فأوجز في صلاته فقلت: ان سيدي يأمرك بالخروج اليه، إذ جاءت أمّه صيقل فأخذت بيده وأخرجته الى أبيه الحسن.
قال أبو سهل: فلما مشى الصبي بين يديه سلم ـ وإذا هو درّي اللون وفي شعر رأسه قطط مفلّج الاسنان فلما رآه الحسن عليه السّلام بكى وقال: يا سيد أهل بيته اسقني الماء فاني ذاهب الى ربي، وأخذ الصبي القدح المغلي بالمصطكي بيده ثم حرّك شفتيه ثم سقاه فلما شربه قال: هيّئوني للصلاة فطرح في حجره منديل فوضّاه الصبي واحدة واحدة ومسح على رأسه وقدميه فقال له أبو محمّد عليه السّلام: ابشر يا بني، فأنت صاحب الزمان وأنت المهدي وأنت حجة الله على أرضه وأنت ولدي ووصيي وأنا ولدتك وأنت م ح م د بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولّدك رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنت خاتم الأئمة الطاهرين وبشر بك رسول الله وسمّاك وكناك، بذلك عهد اليَّ أبي عن آبائك الطاهرين صلى الله على أهل البيت ربنا انه حميدٌ مجيد، ومات الحسن بن علي من وقته»(4).
قال الشيخاني: «وكانت وفاة أبي محمّد الحسن الخالص العسكري بسرّ من رأى، في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأول مسموماً، سنة ستين ومائتين من الهجرة النبوية، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه علي الهادي العسكري»(5).
قال خواجه پارسا البخاري: «ومن أئمة أهل البيت أبو محمّد الحسن العسكري رضي الله عنه وفاته يوم الجمعة السادس من ربيع الأول سنة ستين ومائتين ودفن بجنب أبيه، وكانت مدة بقاء الحسن العسكري بعد أبيه رضي الله عنهما ست سنين ولم يخلف ولداً غير أبي القاسم محمّد المنتظر المسمى بالقائم والحجة والمهدي وصاحب الزمان وخاتم الأئمة الإثنى عشر عند الإمامية»(6).
روى ابن الصبّاغ عن عبيد الله بن خاقان، قال: «لقد ورد على الخليفة المعتمد على الله أحمد بن المتوكل في وقت وفاة أبي محمّد الحسن بن علي العسكري ما تعجبنا منه ولا ظننا أن مثله يكون من مثله، وذلك انه لما اعتل أبو محمّد ركب خمسة من دار الخليفة من خدام أميرالمؤمنين وثقاته وخاصته كل منهم نحرير فقه وأمرهم بلزوم دار أبي الحسن وتعرف خبره ومشاركتهم له بحاله وجميع ما يحدث له في مرضه، وبعث اليه من خدام المتطبّبين وأمرهم بالاختلاف اليه وتعهّده صباحاً ومساء، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاث أخبروا الخليفة بأن قوّته قد سقطت وحركته قد ضعفت وبعيد أن يجيء منه شيء، فأمر المتطببين بملازمته وبعث الخليفة الى القاضي ابن بختيار ان يختار عشرة ممن يثق بهم وبدينهم وأمانتهم يأمرهم الى دار أبي محمّد الحسن وبملازمته ليلا ونهاراً فلم يزالوا هناك الى أن توفي بعد أيام قلائل، ولما رفع خبر وفاته ارتجّت سرّ من رأى وقامت ضجّة واحدة، وعطّلت الأسواق، وغلّقت أبواب الدكاكين، وركب بنو هاشم والكتاب والقواد والقضاة والمعدّلون وساير الناس الى أن حضروا الى جنازته، فكانت سرّ من رأى في ذلك شبيهاً بالقيامة.
فلما فرغوا من تجهيزه بعث الخليفة الى أبي عيسى بن المتوكل أخيه بالصلاة عليه فلما وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منه وكشف عن وجهه وعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية وعلى القضاة والكتاب والمعدّلين، فقال: هذا أبو محمّد العسكري مات حتف أنفه على فراشه، وحضره من خدّام أميرالمؤمنين فلان وفلان، ثم غطّى وجهه وصلى عليه وأمر بحمله ودفنه.
وكانت وفاة أبي محمّد الحسن بن علي بسر من رأى في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين للهجرة، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه بدارهما من سر من رأى وله يومئذ من العمر ثمان وعشرون سنة، وكانت مدة امامته سنتين كانت في بقية ملك المعتز بن المتوكل، ثم ملك المهتدي ابن الواثق أحد عشراً ثم ملك المعتمد على الله أحمد بن المتوكل ثلاث وعشرين سنة، مات في أوائل دولته.
خلف أبو محمّد الحسن من الولد ابنه الحجة القائم المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفي مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وخوف السلطان وتطلبه للشيعة وحبسهم والقبض عليهم.
وتولّى جعفر بن علي أخوه أخذ تركته واستولى عليها، وسعى في حبس مواليه وشنّع على اصحابه عند السلطان، وذلك لكونه أراد القيام عليهم مقام أخيه فلم يقبلوه لعدم أهليته لذلك ولا ارتضوه، وبذل جعفر على ذلك مالا جليلا لولي الأمر فلم يتفق له ولم يجتمع عليه إثنان.
ذهب كثير من الشيعة الى أن أبا محمّد الحسن مات مسموماً وكذلك أبوه وجدّه وجميع الأئمة الذين من قبلهم خرجوا كلهم تغمّدهم الله برحمته من الدنيا على الشهادة واستدلوا على ذلك بما روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال: ما منّامقتولٌ أو شهيد»(7).
قال الطبرسي: «وكان مرضه الذي توفي فيه أول شهر ربيع الأوّل سنة ستين ومائتين وتوفي يوم الجمعة لثمان خلون من هذا الشهر وخلف ولده الحجة القائم المنتظر لدولة الحق وكان أخفى مولده لشدة طلب سلطان الوقت له واجتهاده في البحث عن أمره فلم يره الاّ الخواص من شيعته»(8).
قال الشيخ الطوسي: «في أول يوم من ربيع الأول: كانت وفاة أبي محمّد الحسن بن علي العسكري»(9).
وقال الشيخ الكفعمي: «توفي عليه السّلام في أول يوم من ربيع الأول».
وقال في موضع آخر «يوم الجمعة ثامنه سمه المعتمد»(10).
قال الطبري الإمامي: «توفي بسر من رأى، ولما اتصل الخبر بأمّه وهي في المدينة خرجت حتى قدمت سرّ من رأى، وجرى بينها وبين أخيه جعفر أقاصيص في مطالبته إياها بميراثه، فسعى بها الى السلطان وكشف ما ستره وادّعت صيقل عند ذلك انها حامل وحملت الى دار المعتمد، فجعل نساءه وخدمه ونساء الواثق ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعهّدن أمرها، الى أن دهمهم أمر الصفار وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان وأمر صاحب الزنج وخروجهم عن سر من رأى ما شغلهم عن ذلك وعن ذكر من أعقب من أجل ما يشاء الله ستره ورعايته بمنه وطوله»(11).
وقال الشيخ المفيد: «تولّى جعفر بن علي أخو أبي محمّد عليه السّلام أخذ تركته، وسعى في حبس جواري أبي محمّد عليه السّلام واعتقال حلائله وشنّع على أصحابه بانتظارهم ولده وقطعهم بوجوده والقول بإمامته وأغرى بالقوم حتّى أخافم وشرّدهم، وجرى على مخلّفي أبي محمّد بسبب ذلك كل عظيمة من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذلّ، ولم يظفر السلطان منهم بطائل، وحاز جعفر ظاهراً تركة أبي محمّد واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه ولم يقبل أحد منهم ذلك ولا اعتقده فيه، فصار الى سلطان الوقت يلتمس مرتبة أخيه، وبذل مالا جليلا وتقرّب بكلّ ما ظنّه انه يتقرّب به فلم ينتفع بشيء من ذلك»(12).
«وقيل: سعى جعفر بجواري أخيه وقال: في الجواري جارية إذا ولدت ولداً يكون ذهاب دولتكم على يده. فأنفذ المعتمد الى عثمان بن سعيد(13) وأمره أن ينقلهنّ الى دار القاضي أو بعض الشهود حتى يستبرئهن بالموضع فسلمهن الى ذلك العدل فأقمن عنده سنة، ثم ردّهن الى عثمان بن سعيد لأن الولد المطلوب كان ولد قبل ذلك بست سنين وقيل: بخمس وقيل: بأربع وأظهره أبوه الحسن لخاصة شيعته وأراهم شخصه وعرّفهم بأنه الذي يقصد اليه منه فلما تسلم عثمان بن سعيد الجواري وفيهنّ أم صاحب الأمر عليه السّلام نقلهن الى مدينة السلام»(14).
وقام بأمر الله تعالى مولانا الحجة صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه سراً الا عن ثقاته في سنة ستين ومائتين وله أربع سنين وستة أشهر وكان المعتمد يصرّ على طلبه ليطفىء نور الله فأبى الله الاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون»(15).
(1) كمال الدين وتمام النعمة ج2 ص475.
(2) عيون المعجزات ص126.
(3) بصائر الدرجات ج10 باب في الأئمة انهم يعرفون متى يموتون ص482 رقم8.
(4) الأنوار البهيّة ص166.
(5) الصراط السويّ ص410.
(6) ينابيع المودة ص386.
(7) الفصول المهمة ص288.
(8) اعلام الورى ص379.
(9) مصباح المتهجد.
(10) المصباح.
(11) دلائل الامامة ص223 ورواه الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة ج2 ص474. مع فرق.
(12) الارشاد ص325.
(13) أبو محمّد عثمان بن سعيد العمري وكيله، وهو بابه والسفير بينه وبين شيعته، فمن كانت له حاجة قصده كما كان يقصده في حال حياته.
(14) الأنوار البهية ص167.
(15) عيون المعجزات ص132.