شهادة الإمام الجواد
أشخص المأمون أبا جعفر محمّد بن علي الجواد إلى بغداد بعد وفاة أبيه علي ابن موسى الرضا وزوجه بابنته أم الفضل، ثم رجع الى المدينة وهي معه فأقام بها، وكانت أم الفضل تحسد سمانة أم علي بن محمّد عليه السّلام، فكتبت الى أبيها المأمون من المدينة تشكو أبا جعفر وتقول: انه يتسرى عليَّ ويغيرني اليها، فكتب اليها المأمون: يا بنيّة انّا لم نزوجك أبا جعفر لنحرم عليه حلالا فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها»(1).
أقام الإمام الجواد في المدينة حتى توفي المأمون في رجب سنة ثمان وعشرة ومائتين في البديدون، وحمل جثمانه الى طرسوس فدفن بها، وبويع المعتصم بن هارون في اليوم الذي كانت فيه وفاة المأمون، وانصرف المعتصم الى بغداد فجعل يتفقد أحوال الإمام الجواد عليه السّلام، وكان المعتصم يعلم انحراف أم الفضل عنه وشدّة بغضها لابن الرضا. فكتب الى محمّد بن عبد الملك الزيّات أن ينفذ اليه محمّداً التقي وزوجته أم الفضل بنت المأمون، فأنفذ ابن الزيّات علي بن يقطين اليه فتجهّز وخرج من المدينة الى بغداد وحمل معه زوجته ابنت المأمون.
ويروى أنه لما خرج من المدينة خرج حاجّاً وابنه أبو الحسن علي فخلّفه في المدينة وسلم اليه المواريث والسلاح ونصّ عليه بمشهد ثقاته واصحابه وانصرف الى العراق، فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين ومائتين فلما وصل الى بغداد أكرمه المعتصم وعظّمه.
روى العيّاشي عن زرقان صاحب ابن أبي دؤاد وصديقه الحميم قال: «رجع ابن أبي دؤاد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتم فقلت له في ذلك فقال: وددت اليوم اني قد متّ منذ عشرين سنة، قال: قلت له: ولم ذاك؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمّد بن علي بن موسى اليوم بين يدي أميرالمؤمنين المعتصم قال: قلت له: وكيف كان ذلك؟ قال: ان سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمّد ابن علي فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع؟ قال: فقلت من الكرسوع(2) قال: وما الحجّة في ذلك؟ قال: قلت لأن اليد هي الأصابع والكف الى الكرسوع، لقول الله في التيمّم: (فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)(3) واتّفق معي على ذلك قوم. وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال: وما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأن الله لما قال: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) في الغسل دلّ ذلك على ان حد اليد هو المرفق.
قال: فالتفت الى محمّد بن علي فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلم القوم فيه يا أميرالمؤمنين، قال: دعني ممّا تكلموا به أيّ شيء عندك؟ قال: اعفني عن هذا يا أميرالمؤمنين، قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه فقال: أما إذ أقسمت عليَّ بالله اني أقول: انهم أخطأوا فيه السنّة فان القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف، قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «السجود على سبعة أعضاء، الوجه واليدين والركبتين والرجلين»، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)(4) وما كان لله لم يقطع، قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف، قال ابن أبي دؤاد: قامت قيامتي وتمنيت اني لم أك حيّاً.
قال زرقان: ان ابن أبي دؤاد قال: صرت الى المعتصم بعد ثالثة، فقلت: ان نصيحة أميرالمؤمنين عليّ واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أني ادخل به النار، قال: وما هو؟ قلت: اذا جمع أميرالمؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده وزراؤه وكتابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ويدّعون أنه أولى منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء، قال: فتغير لونه وانتبه لما نبّهته له وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً، قال: فأمر يوم الرابع فلاناً من كتاب وزرائه بأن يدعوه الى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه وقال: قد علمت اني لا أحضر مجالسكم، فقال: انّي انّما أدعوك الى الطعام وأحبّ أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك، وقد أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك فصار اليه فلما أطعم منها أحسّ السم فدعا بدابّته، فسأله رب المنزل أن يقيم قال: خروجي من دارك خيرٌ لك، فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفه حتى قبض صلّى الله عليه»(5).
قال المسعودي: «لما انصرف أبو جعفر الى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبّرون ويعملون الحيلة في قتله، فقال جعفر لأخته أم الفضل ـ وكانت لأمه وأبيه ـ في ذلك لأنه وقف على انحرافها عنه وغيرتها عليه لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها مع شدّة محبتها له ولأنها لم ترزق منه ولداً، فأجابت أخاها جعفراً وجعلوا سمّاً في شيء من عنب رازقي ـ وكان يعجبه العنب الرازقي ـ فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي فقال لها: ما بكاؤك؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر وبلاء لا ينستر، فبليت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناسوراً ينتقض في كل وقت ، فانفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلّة حتّى احتاجت الى رفد الناس. ويروى أن الناسور كان في فرجها. وتردى جعفر في بئر فأخرج ميتاً وكان سكران»(6).
قال ابن الصبّاغ: «ودخلت امرأته أم الفضل الى قصر المعتصم فجعلت مع الحرم وكان لها من العمر خمس وعشرون سنة وأشهر وكانت مدّة امامته سبعة عشر سنة أولها في بقية ملك المأمون وآخرها في ملك المعتصم، ويقال: انه مات مسموماً»(7).
قال الشبلنجي: «يقال: ان أم الفضل بنت المأمون سقته بأمر أبيها»(8).
وروي أنه «أنفذ المعتصم أشناس ـ أحد عبيده ـ بالتحف اليه والى أم الفضل ثم أنفذ اليه شراب حماض الأترج تحت ختمه على يدي أشناس وقال: ان أميرالمؤمنين ذاقه ويأمرك أن تشرب منها بماء الثلج وصنع في الحال، فقال عليه السّلام: أشربها بالليل، وكان صائماً، قال: انما ينفع بارداً وقد ذاب الثلج، وأصرّ على ذلك، فشربها عالماً بفعلهم عند الافطار، وكان فيها سم»(9).
(1) المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص382.
(2) الكرسوع: طرف الزند الذي يلي الخنصر.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) سورة الجنّ: 18.
(5) تفسير العياشي ج1 ص319.
(6) اثبات الوصية ص219 وانظر دلائل الامامة ص209.
(7) الفصول المهمة ص276.
(8) نور الأبصار ص191.
(9) المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص384 ورواها صاحب المجالس السنية ج2 ص634.