المباهلة
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَاب ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(1).
لما فتح النبي صلّى الله عليه وآله مكّة، أرسل رسله ودعاته الى الأمم وكاتب الملكين كسرى وقيصر يدعوهما الى الإسلام، والاّ أقرّا بالجزية والصغار، والاّ آذنا بالحرب العوان. أكبر شأنه نصارى نجران(2) وخلطاؤهم.. وامتلأت قلوبهم على تفاوت منازلهم رهبة منه ورعباً، فانهم كذلك من شأنهم، إذ وردت عليهم رسل رسول الله صلّى الله عليه وآله بكتابه… يدعوهم الى الإسلام(3):
بسم الله الرّحمن الرّحيم
اله إبراهيم، واسحاق، ويعقوب، أمّا بعد فانّي أدعوكم الى عبادة الله من عبادة العباد. وأدعوكم الى ولاية الله من ولاية العباد فان أبيتم فالجزية، فان أبيتم فقد آذنتكم بحرب، والسلام»(4).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يقاتل قوماً حتى يدعوهم، فازداد القوم لو رود رسل نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتابه نفوراً واقتراحاً ففزعوا لذلك الى بيعتهم(5) العظمى وأمروا ففرش أرضها وألبس جدرها بالحرير والديباج، ورفعوا الصليب الأعظم، وكان من ذهب مرصّع أنفذه اليهم القيصر الأكبر.. فاجتمع القوم جميعاً للمشورة والنظر في أمورهم وأسرعت اليهم القبائل من مذحج وعك وحمير وأنمار ومن دنا منهم نسباً وداراً من قبائل سبا وكلهم قد ورم أنفه غضباً لقومهم ونكص من تكلّم منهم بالاسلام ارتداداً فخاضوا وأفاضوا في ركز المسير بنفسهم وجمعهم الى رسول الله صلّى الله عليه وآله والنزول به بيثرب لمناجزته. وتكلم أبو حارثة حصين بن علقمة أسقفهم الأول، وكرز بن سيرة الحارثي وكان يومئذ زعيم بني الحارث بن كعب وفي بيت شرفهم، والمعصبّ فيهم وأمير حروبهم والعاقب واسمه عبد المسيح بن شرحبيل وهو يومئذ عميد القوم وأمير رأيهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون جميعاً الاّ عن قوله، والسيد واسمه أهتم بن النعمان وهو يومئذ أسقف نجران وكان نضير العاقب في علوّ المنزلة وجهير بن سراقة، وحارثة بن أثاك. فلما فلج حارثة على السيد، والعاقب بالجامعة وما بيّنوه في الصحف القديمة ولم يتمّ لهما ما قدروا من تحريفها ولم يمكنهما ان يلبسا على الناس في تأويلها، امساكاً عن المنازعة من هذا الوجه وعلما أنهما قد أخطآ سبيل الصواب فصارا الى بيعهم آسفين، وفزع اليهما نصارى نجران فسألوهما عن رأيهما وما يعملان في دينهما فقالا ما معناه: تمسكوا بدينكم حتى يكشف دين محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وسنسير الى بني قريش الى يثرب وننظر الى ما جاء به، والى ما يدعو اليه، فلما تجهز السيد والعاقب للسير الى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة انتدب معهما أربعة عشر راكباً من نصارى نجران من أكابرهم فضلا وعلماً في أنفسهم، وسبعون رجلا من أشراف بني الحرث بن كعب وسادتهم(6).
فلما وجّهوا الى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جلس أبو حارثة على بغلة، والى جنبه أخ له يقال له: كرز، وبشر بن علقمة يسايره اذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال كرز: تعس الأبعد ـ يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فقال له أبو حارثة: فقال بل أنت تعست، قال له: ولم يا أخ؟ فقال: والله انه النبي الذي كنا ننتظره، قال كرز: فما يمنعك أن تتبعه؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا وموّلونا وأكرمونا وقد أبوا الاّ خلافه ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى فأضمر عليها منه أخوه كرز حتى أسلم، ثم مرّ يضرب راحلته ويقول:
اليك تغدو قلقاً وضينها *** معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً دين النصارى دينها
فلما قدم على النبي أسلم، قال: فقدموا على رسول الله وقت العصر وفي لباسهم الديباج وثياب الحبرة على هيئة لم يقدم بها أحد من العرب، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو لبست حلّتك التي أهداها لك قيصر فرأوك فيها، قال: ثم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسلّموا عليه فلم يرد عليهم السلام ولم يكلمهم. فانطلقوا يتتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم فوجدوهما في مجلس من المهاجرين فقالوا: ان نبيكم كتب الينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه وسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا ولم يكلمنا فما الرأي؟ فقالا لعلي بن أبي طالب: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ قال: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون اليه، ففعلوا ذلك فسلّموا فردّ عليهم سلامهم، ثم قال: والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وان ابليس لمعهم، ثم ساءلوه ودارسوه يومهم وقال الأسقف: ما تقول في السيد المسيح يا محمّد؟ قال: هو عبد الله ورسوله، قال: بل كذا وكذا فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: بل هو كذا وكذا فترادّا فنزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من صدر سورة آل عمران نحو من سبعين آية تتبع بعضها بعضاً وفيما أنزل الله (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَاب ـ إلى قوله ـ عَلَى الْكَاذِبِينَ) فقالوا للنبي: نباهلك غداً، وقال أبو حارثة لأصحابه: انظروا فان كان محمّد غدا يباهلكم بولده وأهل بيته فاحذروا مباهلته وان غدا بأصحابه وأتباعه فباهلوه(7).
وقد اتفق رواة السير على أن النبي صلى الله عليه وآله «أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة رضي الله عنهم ثم دعا النصارى الذين حاجّوه الى المباهلة فاحجموا عنها، وقال بعضهم لبعض: ان باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً، ولم يبق نصراني ونصرانية الى يوم القيامة»(8).
«فقال أحدهما لصاحبه: اصعد الجبل ولا تباهله. فانك ان باهلته بؤت باللعنة، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن نعطيه الخراج ولا نباهله»(9).
ورضوا بالجزية فصالحوه فكتب صلّى الله عليه وآله لهم كتاب الصلح على النحو التالي:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
«هذا ما كتب النبي رسول الله محمّد لنجران إذ كان له عليهم حكمة في كل ثمرة وصفراء وبيضاء وسوداء رقيق فافضل عليهم وترك ذلك ألفي حلةً من حلل الأواقي، في كل رجب ألف حلّة، وفي كل صفر ألف حله، كل حلة أوقية وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، وما نقصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مثواة رسلي شهراً فدونه ولا يحبس رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة، أي إذا كان كيد بغدر منهم، وما هلك ممّا أعاروا رسلي من خيل أو ركاب فهم ضمن حتى يردّوه اليهم، ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمّة محمّد النبي رسول الله على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وغيرهم وبعثهم وأمثلتهم، لا يغير ما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم وأمثلتهم، لا يفتن أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا واقه من وقاهيته على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير وليس عليهم رهق ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش. من سأل منهم حقاً فبينهم النصف، غير ظالمين ولا مظلومين بنجران، ومن أكل منهم رباً من ذي قبل فذمّتي منه بريئة. ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر ولهم على ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمّد النبي أبداً حتى يأتي أمر الله ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مكلفين شيئاً بظلم(10).
وكان علي رضي الله عنه كتب الكتاب بين أهل نجران وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم(11).
قال السيد ابن طاووس: «أصح الروايات أنه كانت المباهلة يوم أربعة وعشرين من ذي الحجة»(12).
وروى الشيخ الطوسي عن موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «يوم المباهلة اليوم الرابع والعشرون من ذي الحجة»(13). «في سنة عشر من الهجرة»(14).
(1) سورة آل عمران 59ـ61.
(2) نجران من مخالف اليمن من ناحية مكة (معجم البلدان ج5 ص266).
(3) اقبال الأعمال للسيد علي بن موسى بن جعفر بن طاووس ص496.
(4) صبح الأعشى لأحمد بن علي القلقشندي ج6 ص381.
(5) البيعة: الكنيسة، ومحل العبادة.
(6) ملخّص من اقبال الأعمال.
(7) إعلام الورى للطبرسي ص128.
(8) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص14.
(9) فتوى البلدان للبلاذري ص75.
(10) فتوح البلدان ص76.
(11) السنن الكبرى للبيهقي ج10 ص120.
(12) اقبال الأعمال ص515.
(13) مصباح المتهجّد ص618.
(14) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص293.