احتجاج الإمام الرضا
قال إبراهيم بن العباس: كان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب عنه وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن(1).
لما أراد أن يستخلف المأمون الرضا، جمع بني هاشم فقال: انيّ أريد أن استعمل الرضا على هذا الأمر من بعدي، فحسده بنو هاشم وقالوا: أتولي رجلا جاهلا ليس له بصر بتدبير الخلافة؟ فابعث اليه يأتنا فترى من جهله ما تستدل به! فبعث اليه فأتاه فقال له بنو هاشم: يا أبا الحسن اصعد المنبر وانصب لنا علماً نعبد الله عليه. فصعد المنبر فقعد مليّاً لا يتكلم مطرقاً ثم انتفض انتفاضة فاستوى قائماً وحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على نبيّه وأهل بيته ثم قال: أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات عنه بشهادة العقول انّ كل صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كل مخلوق أن له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث، فليس الله عرف من عرف ذاته بالتشبيه، ولا ايّاه وحّد من اكتنهه، ولا حقيقته أصاب من مثله ولا به صدق من نهّاه ولا صمد صمده من أشار اليه ولا اياه عنى من شبهه ولا له تذلل من بعّضه، ولا اياه أراد من توهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول يعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجته خلقة الله الخلق حجاب بينه وبينهم ومفارقته اياهم مباينة بينه وبينهم، وابتداؤه إياهم دليل على أن لا ابتداء له، لعجز كل مبتدأ عن ابتداء غيره، وأدوّه اياهم دليل على أن لا أداة له، لشهادة الأدوات بفاقة المؤدين فاسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغيره تحديد لما سواه، فقد جهل الله من استوصفه، وقد تعدّاه من استمثله، وقد أخطأه من اكتنهه ومن قال: «كيف» فقد شبّهه ومن قال «لم» فقد علّله، ومن قال: «متى» فقد وقّته، ومن قال: «فيم» فقد ضمّنه، ومن قال: «الى م» فقد نهاه، ومن قال: «حتى م» فقد غيّاه ومن غيّاه فقد غاياه، ومن غاياه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد وصفه، ومن وصفه فقد ألحد فيه، ولا يتغير الله بتغير المخلوق كما لا يتحدد بتحديد المحدود.
أحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة، مباين لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا يتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدّر لا بجول فكرة، مدبّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، شاء لا بهمة، مدرك لا بمجسة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تصحبه الأوقات، ولا تضمنه الأماكن، ولا تأخذه السنات، ولا تحدّه الصفات، ولا تقيده الأدوات.
سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، يتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأمور عرف أن لا قرين له.
ضاد النور بالظلمة، والجلاية بالبهمة، والجسو بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرّق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها. ذلك قوله عزّوجل: (وَمِن كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(2) ففرّق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد.
شاهدة بغرائزها: أن لا غريزة لمغرزها، دالة بتفاوتها: أن لا تفاوت لمفاوتها، مخبرة بتوقيتها: ان لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيره، له معنى الربوبية إذ لا مربوب، وحقيقة الالهية اذلا مألوه، ومعنى العالم ولا معلوم، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وتأويل السمع ولا مسموع.
ليس منذ خلق استحق معنى اسم الخالق، ولا باحداثه البرايا استفاد معنى البارئية، كيف ولا يغيبه: «مذ» ولا تدنيه: «قد» ولا يحجبه: «لعلّ» ولا يوقته: «متى» ولا يشتمله: «حين» ولا يقارنه: «مع» انما تحد الآدوات أنفسها، وتشير الآلة الى نظائرها، وفي الأشياء توجد فعالها.
منعتها «منذ» القدمة، وحمتها «قد» الأزلية، وجنبتها «لو لا» التكملة. افترقت فدلت على مفرقها، وتباينت فاعزت على مباينها، بها تجلّى صانعها للعقول وبها احتجت عن الرؤية، واليها تحاكم الأوهام، وفيها اثبت غيره، ومنها انبط الدليل، وبها عرف الاقرار، وبالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالإقرار يكمل الايمان به. لا ديانة الاّ بعد معرفته، ولا معرفة الاّ بالاخلاص، ولا اخلاص مع التشبيه، ولا نفي مع اثبات الصفة للتثنية، وكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه، وكل ما يمكن فيه يمتنع في صانعه.
ولا يجري عليه الحركة ولا السكون، كيف يجري عليه ما هو أجراه أو يعود فيه ما هو ابتداه، إذاً لتفاوتت ذاته، ولتجزّأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولما كان للباري معنى غير المبروء. ولو وجد له وراء وجد له امام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وكيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث؟ أم كيف ينشىء الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء؟ إذاً لقامت عليه آية المصنوع، ولتحوّل دليلا بعدما كان مدلولا عليه، ليس في محال القول حجة، ولا في المسألة عنه جواب، ولا في معناه لله تعظيم، ولا في ابانته عن الحق ضيم الاّ بامتناع الأزلي أن يثنى، ولما بدى له أن يبدىء، لا إله الاّ الله العلي العظيم كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً، وصلى الله على محمّد وآله الطاهرين»(3).
قال عبد السلام بن صالح الهروي: قلت لعلي بن موسى الرضا عليه السّلام: يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث: انّ المؤمنين يزورون ربّهم من منازلهم في الجنة؟ فقال عليه السّلام: «يا أبا الصلت انّ الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم على جميع خلقه من النبّيين والملائكة ، وجعل طاعته طاعته، ومبايعته مبايعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، فقال عزّوجل (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ)(4) وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(5) وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله. ودرجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الجنة ارفع الدرجات، فمن زاره في درجة في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى. قال: قلت: يا ابن رسول الله، فما معنى الخبر الذي رووه: ان ثواب لا إله إلاّ الله النظر الى وجه الله؟ فقال عليه السّلام: يا أبا الصلت، فمن وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه عليهم صلوات الله، هم الذين بهم يتوجه الى الله عزّوجل والى دينه ومعرفته، فقال الله عزّوجل: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْكْرَامِ) وقال الله عزّوجل: (كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ)(6)فالنظر الى أنبياء الله ورسله وحججه عليه السّلام في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة. وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم ان فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني، يا أبا الصلت، ان الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يدرك بالابصار والأوهام.
قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فأخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقان؟
قال: نعم وانّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به الى السماء.
قال: فقلت له: ان قوماً يقولون: انهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين؟
فقال: ما اولئك منا ولا نحن منهم، من انكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكذبنا، وليس من ولايتنا على شيء، ويخلد في نار جهنم، قال الله عزّوجل: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الُْمجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيم آن)(7) وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لما عرج بي الى السماء اخذ بيديجبرئيل عليه السّلام فادخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته، فتحوّل ذلك نطفة في صلبي، فلما هبطت الى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة عليها السّلام ففاطمة حوراء انسية، فكلما اشتقت الى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة»(8).
قال ابن سنان: «كان المامون يجلس في ديوان المظالم يوم الاثنين ويوم الخميس ويقعد الرضا عليه السّلام على يمينه، فرفع اليه أن صوفياً من أهل الكوفة سرق، فأمر باحضاره فرأى عليه سيماء الخير فقال: سوءاً لهذه الآثار الجميلة بهذا الفعل القبيح، فقال الرجل: فعلت ذلك اضطراراً لا اختياراً وقال الله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِف لاِِثْم)(9) قد منعت من الخمس والغنائم، فقال: وما حقك منها؟ فقال: قال الله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(10) فمنعتني حقي وأنا مسكين وابن السبيل وأنا من حملة القرآن، وقد منعت كل سنة مني مائتي دينار بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال المأمون: لا اعطل حداً من حدود الله وحكماً من احكامه في السارق من أجل اساطيرك هذه، قال: فابدأ أولا بنفسك فطهرها ثم طهر غيرك، واقم حدود الله عليها ثم على غيرك، قال: فالتفت المأمون الى الرضا عليه السّلام فقال: ما تقول؟ قال: انه يقول سرقت فسرق قال: فغضب المأمون، ثم قال: والله لأقطعنّك، قال: اتقطعني وأنت عبدي؟ فقال ويلك ايش تقول؟ قال: اليس امك اشتريت من مال الفيء ولا تقسمها بالحق وأنت عبد لمن في المشرق والمغرب من المسلمين حتى يعتقوك وأنا منهم وما اعتقتك. والأخرى ان النجس لا يطهر نجساً انما يطهره طاهر ومن في جنبه حدٌ لا يقيم الحدود على غيره حتى يبدا بنفسه، أما سمعت الله تعالى يقول: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(11) فالتفت المأمون الى الرضا عليه السّلام فقال: ما تقول؟ قال: ان الله عزّوجل قال لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)(12) وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه، والدنيا والآخرة قائمتان بالحجّة، وقد احتج الرجل، قال: فأمر بإطلاق الرجل الصوفي وغضب على الرضا في السر»(13).
(1) المصدر ص327.
(2) سورة الذاريات: 49.
(3) الاحتجاج للطبرسي ج2 ص398.
(4) سورة النساء: 79.
(5) سورة الفتح: 10.
(6) سورة القصص : 88 .
(7) سورة الرحمن: 43.
(8) الاحتجاج للطبرسي ج2 ص408.
(9) سورة المائدة: 3.
(10) سورة الأنفال: 41.
(11) سورة البقرة: 44.
(12) سورة الانعام: 149.
(13) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج4 ص368.