إحتجاج الإمام العسكري
روي الإربلي عن أبي هاشم، قال: «سأل محمّد بن صالح الأرميني أبا محمّد عن قول الله: (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)(1) فقال أبو محمّد: هل يمحو الله الاّ ما كان وهل يثبت الاّ ما لم يكن؟ فقلت في نفسي: هذا خلاف ما يقول هشام بن الحكم لا يعلم الشيء حتى يكون، فنظر اليَّ أبو محمّد فقال: تعالى الجبار الحاكم العالم بالأشياء قبل كونها، الخالق إذ لا مخلوق، والرب إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه، فقلت: أشهد أنك ولي الله وحجته والقائم بقسطه وانك على منهاج أميرالمؤمنين وعلمه».
وقال أبو هاشم: «كنت عند أبي محمّد فسأله محمّه بن صالح الأرميني عن قوله الله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا)(2).
قال أبو محمّد: ثبتت المعرفة ونسوا ذلك الموقف وسيذكرونه، ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه؟ قال أبو هاشم: فجعلت أتعجب في نفسي من عظيم ما أعطى الله وليه وجزيل ما حمله، فأقبل أبو محمّد عليّ فقال: الأمر أعجب مما عجبت منه يا أبا هاشم وأعظم، ما ظنّك بقوم من عرفهم عرف الله ومن أنكرهم أنكر الله فلا مؤمن الاّ وهو بهم مصدّق وبمعرفتهم موقن.
وعنه، قال: سأل محمّد بن صالح الأرميني أبا محمّد عن قول الله: (لِلَّهِ الاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ)(3) فقال أبو محمّد عليه السّلام: له الأمر من قبل أن يأمر به، وله الأمر من بعد أن يأمر بما شاء فقلت في نفسي: هذا قول الله:(4) (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(5) قال: فنظر اليَّ وتبسم ثم قال (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
قال ابن شهر آشوب: «قال أبو القاسم الكوفي في كتاب التبديل ان اسحاق الكندي ـ وكان فيلسوف العراق في زمانه ـ أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرّد به في منزله، وان بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري، فقال له أبو محمّد عليه السّلام: أما فيكم رجل رشيد يردع استاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمّد: أتؤدّي اليه ما ألقيه اليك؟ قال: نعم قال: فصر اليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فانه يستدعي ذلك منك فقل له: ان أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننتها انك ذهبت اليها؟ فانّه سيقول لك انه من الجائز لأنه رجل يفهم اذا سمع، فاذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت اليه فيكون واضعاً لغير معانيه. فصار الرجل الى الكندي وتلطف الى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليَّ، فأعاد عليه، فتفكر في نفسه ورأى ذلك محتملا في اللغة وسائغاً في النظر فقال: أقسمت عليك الاّ أخبرتني من أين لك؟ فقال: انّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ ما مثلك من اهتدى الى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة فعرّفنى من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمّد فقال: الآن جئت به وما كان ليخرج مثل هذا الاّ من ذلك البيت، ثم انه دعا بالنار واحرق جميع ما كان ألّفه»(6).
(1) سورة الرعد: 39.
(2) سورة الاعراف: 172.
(3) سورة الروم: 4.
(4) كشف الغمة ج2 ص419 وص420.
(5) سورة الاعراف: 54.
(6) المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص424.