صفات الشيعة
روى السمهودي عن صاحب (المطالب العالية) عن نوف البكالي(1): «ان علياً رضي الله عنه خرج يوماً من المسجد، وقد أقبل اليه جندب بن نصير، والربيع بن خثيم وابن اخيه همام بن عباد بن خثيم ـ وكان من اصحاب البرانس المتعبدين ـ فأفضى علي وهم معه إلى نفر فأسرعوا اليه قياماً وسلموا عليه فردّ التحية ثم قال: من القوم؟ فقالوا: انا من شيعتك يا أميرالمؤمنين، فقال لهم خيراً، ثم قال: يا هؤلاء، ما لي لا أرى فيكم سمة شيعتنا وحلية أحبتنا؟ فأمسك القوم حياءً، فأقبل عليه جندب والربيع فقالا له: ما سمة شيعتكم يا أميرالمؤمنين؟ فسكت، فقال همام ـ وكان عابداً مجتهداً ـ أسألك بالذي اكرمكم أهل البيت وخصكم وحباكم لما انبأتنا بصفة شيعتكم، قال: فسأنبئكم جميعاً، ووضع يديه على منكب همام وقال: شيعتنا هم العارفون بالله العاملون بأمر الله، أهل الفضائل الناطقون بالصواب، مأكولهم القوت وملبوسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع، بخعوا لله بطاعته، وخضعوا اليه بعبادته، مضوا غاضين أبصارهم عما حرم الله عليهم واقفين اسماعهم على العلم بدينهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت منهم في الرخاء، رضاً عن الله تعالى بالقضاء، فلو لا الآجال التي كتب الله تعالى لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى لقاء الله والثواب وخوفاً من أليم العقاب، عظم الخالق في أنفسهم وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن رآها فهم على ارائكها متكئون، وهم والنار كمن رآها فهم فيها يعذبون، صبروا أياماً قليلة فأعقبتهم راحة طويلة، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وطلبتهم فاهجروها، أما الليل فصافون اقدامهم تالون لأجزاء القرآن ترتيلا يعظون أنفسهم بامثاله، ويستشفون لدائهم بدوائه تارة وتارة مفترشون جباههم واكفهم وركبهم، واطراف اقدامهم تجري دموعهم على خدودهم، يجدون جباراً عظيماً ويجأرون اليه في فكاك رقابهم، هذا ليلهم، فأما نهارهم فحلماء علماء بررة اتقياء، براهم خوف بارئهم فهم كالقداح يحسبهم الناس مرضى أو قد خولطوا، وما هم بذلك بل خامرهم من عظمة ربهم وشدة سلطانه ما طاشت له قلوبهم وذهلت منه عقولهم، فإذا استقوا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالاعمال الزاكية، لا يرضون له بالقليل ولا يستكثرون له الجزيل، فهم لأنفسهم متهمون ومن اعمالهم مشفقون، ترى لأحدهم قوة في دين، وحزماً في لين، وايماناً في يقين، وحرصاً على علم، وفهماً في فقه، وعلماً في حلم وكيساً في قصد وقصداً في غناء، وتجملا في فاقة، وصبراً في شدة، وخشوعاً في عبادة، ورحمة لمجهود، وإعطاءً في حق، ورفقاً في كسب، وجلباً في حلال، ونشاطاً في هدوء واعتصاماً في شهوة لا يغره ما جهله، ولا يدع احصاء ما علمه، يستبطىء نفسه في العمل وهو من صالح عمله على وجل، يصبح وشغله الذكر، ويمسي وهمه الشكر، يبيت حذراً من سنة الغفلة، ويصبح فرحاً بما اصاب من الفضل والرحمة، رغبته فيما بقي، وزهادته فيما نفي، قد قرن العلم بالعمل، والعلم بالحلم، دائماً نشاطه، بعيداً كسله، قريباً أمله، قليلا زلله، متوقعاً أجله، خاشعاً قلبه، ذاكراً ربه، قانعة نفسه، محرزاً دينه، كاظماً غيظه، آمناً منه جاره، معدوماً كبره، بيناً صبره، كثيراً ذكره، لا يعمل شيئاً من الخير رياءً ولا يتركه حياءً، أولئك شيعتنا وأحبتنا ومنا ومعنا، ألا واهاً شوقاً اليهم.
فصاح همام صيحةً، فوقع مغشياً عليه، فحركوه فإذا هو قد فارق الدنيا، فغسل وصلى عليه أميرالمؤمنين ومن معه.
قلت: فهذه صفة شيعة أهل البيت النبوي التي وصفهم بها امامهم وهي صفة خواص أميرالمؤمنين»(2).
وروى السخاوي باسناده عن يحيى بن زيد، قال: «انما شيعتنا من جاهد فينا ومنع من ظلمنا حتى يأخذ الله عزّوجل لنا بحقنا»(3).
وروى ابن عساكر باسناده عن محمّد بن الحرث، قال: «سمعت المدائني يقول: نظر علي بن أبي طالب إلى قوم ببابه، فقال لقنبر: يا قنبر، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء شيعتك يا أميرالمؤمنين، قال: وما لي لا أرى فيم سيماء الشيعة؟ قال: وما سيماء الشيعة؟ قال: خمص البطون من الطوى، يبس الشفاه من الظماء، عمش العيون من البكاء»(4).
وروى محمّد بن طلحة الشافعي باسناده عن علي عليه السّلام انه قال لنوف البكالي: «هل تدري من شيعتي؟ قال: لا والله، قال: شيعتي الذبل الشفاه الخمص البطون، الذين تعرف الرهبانية والديانة في وجوههم، رهبان بالليل أسد بالنهار، الذين إذا جنهم الليل اتزروا على أوساطهم وارتدوا على اطرافهم وصفوا اقدامهم وافترشوا جباههم، تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى الله في فكاك اعناقهم، وفي النهار حكماء وعلماء كرماء نجباء أبرار اتقياء، يا نوف، شيعتي من لم يهرّ هرير الكلب، ولم يطمع طمع الغراب، ولم يسأل الناس ولو مات جوعاً، ان رأى مؤمناً اكرمه وان رأى فاسقاً هجره، هؤلاء والله شيعتي»(5).
قال أبو جعفر الاسكافي: «وذكروا انه كرم الله وجهه خرج يوماً، فإذا قوم جلوس فقال: من أنتم؟ فقالوا: نحن شيعتك يا أميرالمؤمنين، فقال: سبحان الله، فما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟ قالوا: يا أميرالمؤمنين وما سيماء الشيعة؟ قال: عمش العيون من البكاء خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين»(6).
(1) روى هذه الخطبة الحفاظ وأئمة الحديث في مجاميعهم كسليم بن قيس [كتاب سليم بن قيس الكوفي ص238]، ومحمّد ابن يعقوب الكليني [الكافي ج2 ص226 باب المؤمن وعلاماته وصفاته]، وابن أبي الحديد المعتزلي [شرح نهج البلاغة ج2 ص527 طبع مصر].
قال السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب: «تسمى هذه الخطبة بخطبة همام وهي من خطبة عليه السّلام المعروف، وقد رويت بأسانيد مختلفة، وطرق شتى، فممنّ رواها قبل الشريف الرضي أبان بن أبي عياش ـ كما في كتاب سليم بن القيس الهلالى: ص211 ـ ورواها الصدوق باسناد ذكره في «الأمالي» ص340 في المجلس الرابع والثلاثين، الذي أملاه يوم الثلاثاء، الثامن عشر من رجب، سنة ثمان وستين وثلاثمأة اي قبل ان يتخطى الشريف الرضي التاسعة من عمره الشريف وقبلهما ابن قتيبة روى جملة منها في كتاب الزهد من كتب «عيون الأخبار» م2 ـ352، ورواها الحرّاني في تحف العقول» ص159 إلى غير هؤلاء، هذا قبل الرضي أما بعده، فقد رواها جماعة من العلماء بأسانيد وصور تعرف منها على أنهم لم يأخذوها عن «النهج» منهم سبط ابن الجوزي في «التذكرة» ص148 نقلها من رواية مجاهد عن ابن عباس بصورة أخصر، وابن طلحة الشافعي في «مطالب السؤل» ج1 ص151 من قوله عليه السّلام (المؤمنون أهل الفضائل)، الى قوله سلام الله عليه: (يمسي وهمه الشكر ويصبح وشغله الذكر، وزاد على رواية الرضي (اولئك الأمنون المطمئنون الذين يسقون من كأس لا لغو فيها ولا تأثيم).
ثم رواها بصورة أخرى عن نوف قال: عرضت حاجة إلى أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فاستتبعت اليه جندب بن زهير، والربيع بن خثيم وابن أخيه همام بن عبادة بن خثيم، وكان من أصحاب البرانس المتعبدين فاقبلنا اليه فألفيناه حين خرج يؤم المسجد، فأفضى ونحن معه إلى نفر متدننين قد أفاضوا في الاحدوثات تفكهاً، وهم يلهى بعضهم بعضاً، فاسرعوا اليه قياماً وسلموا عليه، فرد التحية ثم قال: من القوم؟ فقالوا: أناس من شيعتك يا أميرالمؤمنين، فقال لهم خيراً ثم قال: يا هؤلاء مالي لا أرى فيكم سمة شيعتنا، وحلية احبتنا؟ فأمسك القوم حياءً، فأقبل عليه جندب والربيع فقالا له: ما سمه شيعتك يا أميرالمؤمنين؟ فسكت فقال همام، وكان عابداً مجتهداً ـ أسألك بالذي اكرمكم أهل البيت وخصكم وحباكم لما انبأتنا بصفة شيعتك، فقال: لا تقسم فسأنبئكم جميعاً، ثم ذكر الموعظ بتفاوت يسير مع رواية الرضي، وذكر في آخرها صيحة همام وموته وغسله وصلاة أميرالمؤمنين عليه السّلام عليه وروى الكراجكي في «كنز الفوائد» ص31 مثله مسنداً» [مصادر نهج البلاغة وأسانيده ج3 ص65].
(2) جواهر العقدين، العقد الثاني الذكر الخامس ص195، ورواه محمّد بن طلحة في مطالب السؤل ص140 وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة ص92 مع فرق.
(3) استجلاب ارتقاء الغرف باب الحث على حبهم والقيام بواجب حقهم ص71.
(4) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق ج3 ص206 رقم /1261.
(5) مطالب السؤل ص139.
(6) المعيار والموازنة ص241.