مسير الحسين من المدينة إلى مكة و منها إلى كربلاء
روى المجلسي بإسناده عن عبدالله بن منصور، وكان رضيعاً لبعض ولد زيد ابن عليّ قال: «سألت جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين فقلت: حدثني عن مقتل ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال: حدثني أبي عن أبيه عليهما السلام قال: لما حضرت معاوية الوفاة دعا ابنه يزيد لعنه الله فأجلسه بين يديه فقال له: يا بني اني قد ذللّت لك الرقاب الصعاب ووطدت لك البلاد وجعلت الملك وما فيه لك طعمة، واني أخشى عليك من ثلاثة نفر يخالفون عليك بجهدهم وهم: عبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي.
فأما عبد الله بن عمر فهو معك فالزمه ولا تدعه، وأما عبدالله بن الزبير فقطعه ان ظفرت به إرباً إرباً، فانه يجثو لك كما يجثو الأسد لفريسته ويواربك مؤاربة الثعلب للكلب.
وأما الحسين فقد عرفت حظه من رسول الله، وهو من لحم رسول الله ودمه، وقد علمت لا محالة أن أهل العراق سيخرجونه إليهم ثم يخذلونه ويضيعونه، فان ظفرت به فاعرف حقه ومنزلته من رسول الله، ولا تؤاخذه بفعله، ومع ذلك، فان لنا به خلطة ورحماً، وإيّاك أن تناله بسوء أو يرى منك مكروهاً»(1).
قال أبو مخنف: «إن والي الشام أوصى إلى ابنه يزيد وكان غائباً فكتب له كتاباً: يا بني قد وطأت لك البلاد وذللت لك الرقاب الشداد ولست أخشى عليك إلاّ من الحسين بن علي فانه لا يبايعك، ودفع الكتاب الى الضحاك بن قيس وأمره أن يوصله إلى يزيد فبايعه أهل جميع البلاد الاّ أهل الكوفة وأهل المدينة»(2).
قال الخوارزمي: «توفي معاوية بدمشق يوم الأحد لأيام خلت من شهر رجب سنة ستين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، فكان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر، وليس يزيد عنده وكان في حوران موضع من الشام ليتصيد، فلما بلغ خبر موت معاوية إلى يزيد، وثب باكياً وأمر بإسراج دوابه وسار يريد دمشق، فصار اليها بعد ثلاثة أيام من مدفن معاوية، وخرج الناس إلى استقباله فلم يبق أحد يطيق حمل السلاح الاّ ركب وخرج، حتى إذا قرب من دمشق جعل الناس يتلقونه ويبكون ويبكي معهم… ثم نزل يزيد في قبّة خضراء لأبيه… فدخل الناس عليه يهنّونه بالخلافة ويعزونه… وفتح بيوت الأموال فأخرج لأهل الشام أموالا جزيلة وفرّقها عليهم وكتب إلى جميع البلاد بأخذ البيعة له، فكان على المدينة يومئذ مروان ابن الحكم فعزله وولى مكانه ابن عمه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وكتب اليه:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أمّا بعد فان معاوية كان عبداً من عبيد الله أكرمه واستخلفه ومكن له، ثم قبضه إلى روحه وريحانه ورحمته وثوابه، عاش بقدر، ومات بأجل، وقد كان عهد إلي وأوصاني أن أحذر آل أبي تراب وجرأتهم على سفك الدماء، وقد علمت يا وليد ان الله تعالى منتقم للمظلوم عثمان بن عفان من آل أبي تراب بآل سفيان لأنهم انصار الحق وطلاب العدل، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة لي على جميع أهل المدينة.
قال: ثم كتب صحيفة صغيرة كأنها أذن فارة فيها (أما بعد، فخذ الحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة، فمن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه والسلام).
فلما ورد الكتاب على الوليد بن عتبة وقرأه، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا ويح الوليد ممن أدخله في هذه الامارة، مالي وللحسين بن فاطمة؟ ثم بعث إلى مروان فدعاه وأقرأه الكتاب فاسترجع مروان، ثم قال: يرحم الله أمير المؤمنين معاوية، فقال له الوليد: أشر علي برأيك في أمر هؤلاء القوم.
فقال مروان: أرى أن تبعث اليهم الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد. فان فعلوا قبلت ذلك منهم وكففت عنهم، وان أبوا قدمتهم وضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فانهم ان علموا بذلك وثب كل واحد منهم وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، فعند ذلك اخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به وما لا تقوم به، الاّ عبد الله بن عمر فانه لا أراه ينازع في هذا أحداً الاّ أن تأتيه الخلافة فيأخذها عفواً، فذر عنك ابن عمر وابعث الى الحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير فادعهم إلى البيعة، مع أني اعلم أن الحسين خاصة لا يجيبك إلى بيعة يزيد أبداً، ولا يرى له عليه طاعة، ووالله اني لو كنت بموضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى اضرب عنقه كائنا في ذلك ما كان.
فاطرق الوليد برأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه وقال: ليت الوليد لم يولد، ولم يكن شيئاً مذكوراً، ثم دمعت عيناه.
فقال له مروان: أيّها الأمير لا تجزع مما ذكرت لك فان آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر ولا يزالون، وهم الذين قتلوا عثمان، وهم الذين ساروا إلى أمير المؤمنين معاوية فحاربوه، وبعد فاني لست آمن أيّها الأمير ان لم تعاجل الحسين بن علي خاصة أن تسقط منزلتك من أمير المؤمنين يزيد، فقال له الوليد: مهلا ويحك دعني من كلامك هذا وأحسن القول في ابن فاطمة فانه بقية ولد النبيين.
ثم بعث الوليد إلى الحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله ابن عمر وعبدالله بن الزبير فدعاهم، وأقبل اليهم رسوله، وهو عمرو بن عثمان فلم يصب القوم في منازلهم، فمضى نحو المسجد فإذا هم عند قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فسلّم عليهم ثم قال: الأمير يدعوكم فصيروا إليه، فقال الحسين: نفعل ذلك إذا نحن فرغنا من مجلسنا هذا ان شاء الله. قال: فانصرف الرسول إلى الوليد وأخبره بذلك. وأقبل عبد الله بن الزبير على الحسين، فقال: يا أبا عبدالله ان هذه ساعة لم يكن الوليد بن عتبة يجلس فيها للناس، واني قد أنكرت بعثه الينا ودعاءه ايّانا في مثل هذا الوقت، أفترى لماذا بعث الينا؟
فقال له الحسين: أنا أخبرك، أظن أن معاوية قد مات، وذلك اني رأيت البارحة في منامي كأن معاوية منكوس، ورأيت النار تشتعل في داره، فتأولت ذلك في نفسي ان قد مات معاوية، فقال ابن الزبير: فاعلم أن ذلك كذلك. فماذا ترى نصنع يا أبا عبدالله ان دعينا إلى بيعة يزيد؟
فقال الحسين: أما أنا فلا ابايع أبداً، لأن الأمر كان لي بعد اخي الحسن فصنع معاوية ما صنع، وكان حلف لأخي الحسن أن لا يجعل الخلافة لأحد من ولده، وأن يردها عليّ ان كنت حياً. فان كان معاوية خرج من دنياه ولم يف لي ولا لأخي بما ضمن فقد جاءنا ما لا قرار لنا به. أتظن اني أبايع ليزيد، ويزيد رجل فاسق معلن بالفسق يشرب الخمر ويلعب بالكلاب والفهود ونحن بقية آل الرسول، لا والله لا يكون ذلك أبداً.
قال: فبيناهما كذلك في المحاورة اذ رجع الرسول فقال: ان الأمير قاعد لكما خاصة فقوما اليه، فزبره الحسين وقال: انطلق إلى أميرك لا أم لك، فمن أحب ان يصير اليه منا فانه صائر اليه، فاما أنا فاني أصير اليه الساعة ان شاء الله ولا قوة بالله، فرجع الرسول ايضاً إلى الوليد فقال: أصلح الله الأمير، أما الحسين بن علي خاصة فانه صائر اليك في أثري فقد أجاب، فقال مروان: غدر والله الحسين فقال الوليد: مهلا فليس مثل الحسين يغدر، ولا يقول شيئاً ثم لا يفعل.
قال: ثم ان الحسين أقبل على من معه وقال: صيروا الى منازلكم، فاني صائر الى الرجل فأنظر ما عنده وما يريد.
فقال له ابن الزبير: جعلت فداك اني خائف عليك ان يحبسوك عندهم فلا يفارقونك أبداً دون أن تبايع أو تقتل.
فقال الحسين: اني لست أدخل عليه وحدي، ولكني اجمع اليّ أصحابي وخدمي وانصاري وأهل الحق من شيعتي، ثم آمرهم ان يأخذ كل واحد منهم سيفه مسلولا تحت ثيابه ثم يصيروا بازائي، فإذا أنا أومأت اليهم وقلت: يا آل الرسول ادخلوا فعلوا ما أمرتهم به فأكون على الامتناع دون المقادة والمذلة في نفسي، فقد علمت والله أنه جاء من الأمر ما لا أقوم به ولا أقرّ له، ولكن قدر الله ماض وهو الذي يفعل في أهل بيت رسول الله ما يشاء ويرضى.
ثم قام وصار إلى منزله فدعا بماء فتطهر واغتسل وصلّى ركعتين ودعا ربه بما أحب ان يدعو به، فلما انفتل من صلاته أرسل إلى فتيانه وعشيرته ومواليه وأهل بيته وأعلمهم شأنه، وقال: كونوا بباب هذا الرجل فاني ماض إليه ومكلمه، فإن سمعتم صوتي وكلامي قد علا مع القوم وصحت بكم يا آل الرسول فاقتحموا بغير اذن، ثم اشهروا السيوف ولا تعجلوا، فان رأيتم ما تخشون فضعوا سيوفكم فيهم واقتلوا من أراد قتلي.
ثم خرج الحسين من منزله وفي يده قضيب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في ثلاثين رجلا من أهل بيته ومواليه وشيعته فوقفهم على باب الوليد، ثم قال: انظروا ما أوصيتكم به فلا تعدوه، وأنا أرجو أن أخرج اليكم سالماً ان شاء الله. ثم دخل على الوليد فسلّم عليه بالإمرة وقال: كيف أصبح الأمير اليوم وكيف حاله؟ فرد عليه الوليد رداً حسناً، ثم أدناه وقرّبه ومروان هنالك جالس، وقد كان بين مروان والوليد منافرة ومنازعة فلما نظر الحسين إلى مروان جالساً في مجلس الوليد قال: أصلح الله الأمير، الصلاح خيرٌ من الفساد، والصلة خيرٌ من الشحناء، وقد ان لكما أن تجتمعا فالحمد لله الذي اصلح ذات بينكما، فلم يجيباه في هذا بشيء.
فقال الحسين: هل ورد عليكم من معاوية خبر فانه كان عليلا وقد طالت علته، فكيف هو الآن؟ فتأوّه الوليد وتنفس الصعداء، وقال: يا أبا عبدالله آجرك الله في معاوية فقد كان لكم عم صدق ووالي عدل، لقد ذاق الموت، وهذا كتاب أمير المؤمنين يزيد.
فقال الحسين: انا لله وانا إليه راجعون، وعظم الله لك الأجر أيها الأمير ولكن لماذا دعوتني؟ فقال: دعوتك للبيعة التي قد اجتمع الناس عليها.
فقال الحسين: أيها الأمير ان مثلي لا يعطي بيعته سراً، وانما يجب ان تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة، فإذا دعوت الناس غداً الى البيعة دعوتنا معهم فيكون الأمر واحداً، فقال الوليد: أبا عبد الله والله لقد قلت فأحسنت القول وأجبت جواب مثلك، وهكذا كان ظني بك، فانصرف راشداً، وتأتينا غداً مع الناس.
فقال مروان: أيها الأمير، إن فارقك الساعة ولم يبايع فانك لم تقدر منه على مثلها ابداً حتى تكثر القتلى بينك وبينه، فاحبسه عندك ولا تدعه يخرج أو يبايع وإلاّ فاضرب عنقه، فالتفت إليه الحسين وقال: ويلي عليك يا ابن الزرقاء، أتأمر بضرب عنقي؟ كذبت والله ولؤمت. والله لو رام ذلك أحد لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك، فان شئت ذلك فرُم أنت ضرب عنقي ان كنت صادقاً.
ثم أقبل الحسين على الوليد فقال: أيها الأمير، انا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب خمر، قاتل نفس، معلن بالفسق، فمثلي لا يبايع لمثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة.
قال: وسمع من بالباب صوت الحسين وقد علا فهمّوا أن يقتحموا عليهم بالسيوف. ولكن خرج اليهم الحسين فأمرهم بالانصراف إلى منازلهم، وذهب إلى منزله، فقال مروان للوليد: عصيتني أيها الأمير حتى أفلت الحسين من يديك، أما والله لا تقدر منه على مثلها أبداً، ووالله ليخرجن عليك وعلى أمير المؤمنين فاعلم ذلك.
فقال الوليد لمروان: ويحك انك قد أشرت علي بقتل الحسين، وفي قتله ذهاب ديني ودنياي، والله اني لا أحب أن أملك الدنيا بأسرها شرقها وغربها واني قتلت الحسين بن فاطمة، والله ما أظن أحداً يلقى الله يوم القيامة بدمه الاّ وهو خفيف الميزان عند الله، لا ينظر اليه ولا يزكيه وله عذابٌ أليم.
قال: وأصبح الحسين من غده يستمع الأخبار فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه فقال: أبا عبد الله اني لك ناصح فأطعني ترشد وتسدد. فقال: وما ذاك؟ قل أسمع، فقال: اني أرشدك لبيعة يزيد فانها خير لك في دينك وفي دنياك، فاسترجع الحسين وقال: انا لله وانا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد، ثم قال: يا مروان أترشدني لبيعة يزيد ويزيد رجل فاسق؟ لقد قلت شططاً من القول وزللا، ولا ألومك فانك اللعين الذي لعنك رسول الله وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص، ومن لعنه رسول الله فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد، اليك عني يا عدو الله، فانا أهل بيت رسول الله الحق فينا ينطق على السنتنا، وقد سمعت جدي رسول الله يقول: الخلافة محرمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء. فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه، ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول الله فلم يفعلوا به ما أمروا فابتلاهم بابنه يزيد.
فغضب مروان من كلام الحسين فقال: والله لا تفارقني حتى تبايع ليزيد صاغراً فانكم آل أبي تراب قد ملئتم شحناء وأشربتم بغض آل أبي سفيان، وحقيق عليهم أن يبغضوكم، فقال الحسين: اليك عني فانك رجس واني من أهل بيت الطهارة قد أنزل الله فينا (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(3)فنكس رأسه ولم ينطق، ثم قال له الحسين: أبشر يا ابن الزرقاء بكلما تكره من رسول الله يوم تقدم على ربك فيسألك جدي عن حقي وحق يزيد، فمضى مروان إلى الوليد وأخبره بمقالة الحسين.
قال: وكان عبد الله ابن الزبير مضى إلى مكة حين اشتغلوا بمحاورة الحسين وتنكب الطريق، فبعث الوليد بثلاثين رجلا في طلبه فلم يقدروا عليه، فكتب الوليد الى يزيد يخبره بما كان من أمر ابن الزبير ومن أمر الحسين وأنه لا يرى عليه طاعة ولا بيعة، فلمّا ورد الكتاب على يزيد غضب غضباً شديداً ـ وكان إذا غضب احولّت عيناه ـ فكتب إلى الوليد:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة: أما بعد فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة ثانية على أهل المدينة توكيداً منك عليهم، وذر عبد الله بن الزبير فانه لن يفوتنا ولن ينجو منا أبداً ما دمنا أحياء، وليكن مع جواب كتابي هذا رأس الحسين، فان فعلت ذلك جعلت لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة العظمى والحظ الأوفر والسلام.
فلما ورد الكتاب على الوليد أعظم ذلك، وقال: والله لا يراني الله وأنا قاتل الحسين ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولو جعل لي يزيد الدنيا وما فيها.
قال: وخرج الحسين من منزله ذات ليلة وأتى قبر جده صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: السلام عليك يا رسول الله أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك وسبطك والثقل الذي خلفته في امتك، فاشهد عليهم يا نبي الله انهم قد خذلوني وضيّعوني ولم يحفظوني، وهذه شكواي اليك حتى ألقاك صلّى الله عليك، ثم صف قدميه فلم يزل راكعاً ساجداً.
قال: وأرسل الوليد بن عتبة إلى منزل الحسين ينظر أخرج من المدينة أم لا فلم يصبر في منزله فقال: الحمد لله اذ خرج ولم يبتلني الله في دمه.
قال: ورجع الحسين إلى منزله عند الصبح… فلما كانت الليلة الثالثة خرج إلى القبر أيضاً فصلى ركعات فلما فرغ من صلاته جعل يقول: اللهم ان هذا قبر نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا ابن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم اني أحب المعروف وانكر المنكر، واني أسألك يا ذا الجلال والاكرام بحق هذا القبر ومن فيه الاّ اخترت لي من أمري ما هو لك رضى، ولرسولك رضى وللمؤمنين رضى، ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفي، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه ومن خلفه فجاء حتى ضم الحسين إلى صدره وقبل بين عينيه وقال: حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب مرمّلا بدمائك، مذبوحاً بأرض كربلا بين عصابة من أمتي، وأنت في ذلك عطشان لا تسقى وظمآن لا تروى، وهم في ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، وما لهم عند الله من خلاق، حبيبي يا حسين ان أباك وأمك واخاك قدموا عليَّ وهم اليك مشتاقون، وان لك في الجنة لدرجات لن تنالها الاّ بالشهادة.
قال: فجعل الحسين في منامه ينظر إلى جده محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويسمع كلامه، ويقول له: يا جدّاه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا فخذني اليك وأدخلني معك إلى قبرك.
فقال له النبي: يا حسين لابدَّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما قد كتب الله لك من الثواب العظيم، فإنك وأباك وأمك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنة.
قال: فانتبه الحسين من نومه فزعاً مرعوباً فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب، فلم يكن في ذلك اليوم في شرق ولا غرب قوم اشد غماً من أهل بيت رسول الله ولا أكثر باكياً ولا باكية.
قال: وتهيأ الحسين عليه السّلام وعزم على الخروج من المدينة ومضى في جوف الليل الى قبر أمه فصلى عند قبرها وودّعها، ثم قام من قبرها وصار إلى قبر أخيه الحسن عليه السّلام ففعل كذلك، ثم رجع إلى منزله في وقت الصبح فأقبل اليه أخوه محمّد بن الحنفية، فقال له: يا أخي فدتك نفسي أنت أحب الناس اليّ وأعزهم عليّ، ولست والله أدخر النصيحة لأحد من الخلق وليس أحد أحق بها منك، لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل بيتي ومن وجبت طاعته في عنقي، لأن الله تبارك وتعالى قد شرّفك وجعلك من سادات أهل الجنة. اني أريد أن اشير عليك فاقبل مني، فقال له الحسين: قل يا أخي ما بدا لك.
فقال: أشير عليك ان تتنحى بنفسك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، وان تبعث رسلك إلى الناس فتدعوهم إلى بيعتك، فان بايعك الناس حمدت الله على ذلك وقمت فيهم بما كان يقومه رسول الله والخلفاء من بعده حتى يتوفاك الله وهو عنك راض، والمؤمنون عنك راضون كما رضوا عن أبيك وأخيك، وان اجتمع الناس على غيرك حمدت الله على ذلك وسكت ولزمت منزلك، فاني خائف عليك ان تدخل مصراً من الأمصار أو تأتي جماعة من الناس فيقتتلون فتكون طائفة منهم معك وطائفة عليك فتقتل بينهم.
فقال له الحسين: يا أخي فالى أين أذهب؟ قال: تخرج إلى مكة فان اطمأنت بك الدار بها فذاك الذي تحب، وان تكن الاخرى خرجت إلى بلاد اليمن فإنهم أنصار جدك وأبيك وأخيك، وهم أرأف وأرقّ قلوباً وأوسع الناس بلاداً وأرجحهم عقولا، فان اطمأنت بك أرض اليمن فذاك، والا لحقت بالرمال وشعوب الجبال وصرت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يؤول اليه أمر الناس، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.
فقال له الحسين: يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية، فقال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اللهم لا تبارك في يزيد فقطع محمّد الكلام وبكى فبكى معه الحسين ساعة، ثم قال: يا أخي جزاك الله عني خيراً، فلقد نصحت، وأشرت بالصواب، وأرجو أن يكون رأيك موفقاً مسدداً، وأنا عازم على الخروج إلى مكة، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ممن أمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم في المدينة فتكون لي عيناً عليهم ولا تخف عليّ شيئاً من أمورهم، ثم دعا الحسين عليه السّلام بدواة وبياض وكتب فيها هذه الوصية لأخيه محمّد:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمّد بن علي المعروف بابن الحنفية: إن الحسين بن علي يشهد أن لا إله الاّ الله وحده لا شريك له وأن محمّداً عبده ورسوله جاء بالحق من عند الحق، وان الجنة والنار حق، وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور، اني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وانما خرجت أطلب الاصلاح في امة جدي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر… فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد علي هذا صبرت حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين، هذه وصيتي إليك يا أخي وما توفيقي الاّ بالله عليه توكلت واليه أنيب، والسلام عليك وعلى من اتبع الهدى ولا قوة الاّ بالله العلي العظيم… ثم طوى الحسين كتابه هذا وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أخيه محمّد، ثم ودعه.
وخرج في جوف الليل يريد مكة في جميع أهل بيته وذلك لثلاث ليال مضين من شهر شعبان سنة ستين(4) فلزم الطريق الأعظم فجعل يسير وهو يتلو هذه الآية(5). (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(6).
قال أبو مخنف «أتى الحسين رضي الله عنه إلى قبر جده صلّى الله عليه وسلّم وبكى وقال: يا جدي اني أخرج من جوارك كرهاً لأني لم ابايع يزيد شارب الخمور ومرتكب الفجور، فبينا هو في بكائه أخذته النعسة فرأى جده صلّى الله عليه وآله وسلّم وإذا هو قد ضمه إلى صدره وقبل ما بين عينيه وقال: يا ولدي يا حبيبي اني أراك عن قليل مرملا بدماك مذبوحاً من قفاك بأرض يقال لها كربلا، وأنت عطشان وأعداؤك يرجون شفاعتي لا أنالهم الله ذلك. يا ولدي يا حبيبي ان أباك وأمك وجدتك وأخاك وعمك وعم أبيك وأخوالك وخالاتك وعمتك هم مشتاقون اليك، وان لك في الجنة درجة لن تنالها إلا بالشهادة، وانك وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك شهداء تحشرون زمرة واحدة حتى تدخلون الجنة بالبهاء والبهجة. فانتبه من نومه فقصّها على أهل بيته فغموا غماً شديداً، ثم تهيأ على الخروج»(7).
قال السيد ابن طاووس: «فلما كان في السحر ارتحل الحسين عليه السّلام، فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها فقال له: يا أخي ألم تعدني النظر في ما سألتك؟ قال: بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلا؟ فقال: أتاني رسول الله بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين أخرج فان الله قد شاء أن يراك قتيلا، قال له ابن الحنفية: انا لله وانا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ قال: فقال له: قد قال لي: إن الله قد شاء أن يراهن سبايا. وسلم عليه ومضى»(8).
روى ابن قولويه باسناده عن محمّد بن علي عليه السّلام قال: «لما همّ الحسين عليه السّلام بالشخوص عن المدينة أقبلت نساء بني عبد المطلب فاجتمعن للنياحة، حتى مشى فيهن الحسين عليه السّلام فقال: أنشدكن الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله، فقال له نساء بني عبد المطلب: فلمن نستبقي النياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلي وفاطمة ورقية وزينب وأم كلثوم، فننشدك الله جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور. وأقبلت بعض عماته تبكي»(9).
روى أبو مخنف عن سكينة بنت الحسين قالت: «حين خرجنا من المدينة ما كان من أهل بيت أشد خوفاً من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم»(10).
قال الخوارزمي: «قال له ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب: يا ابن رسول الله لو عدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادة كما فعل عبدالله بن الزبير كان عندي خير رأي، فاني أخاف أن يلحقنا الطلب، فقال له الحسين: لا والله يا ابن العم، لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكة ويقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى»(11).
قال أبو محنف: «وأنشأ يقول:
إذا المرء لا يحمي بنيه وعرسه *** وعترته كان اللئيم المسببا
ومن دون ما يبغي يزيد بنا غداً *** نخوض بحار الموت شرقاً ومغرباً
ونضرب ضرباً كالحريق مقدماً *** إذا ما رآه ضيغم فر مهرباً
قال: ثم توجه سائراً… حتى أتى مكة فلما أشرف عليها قال: اللهم خذلي بحقي وقر عيني رب اهدني سواء السبيل»(12).
قال الخوارزمي: «فلما نظر إلى جبال مكة من بعيد جعل يتلو هذه الآية (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ)(13)… ولما دخل الحسين مكة فرح به أهلها فرحاً شديداً وجعلوا يختلفون اليه غدوة وعشية، وكان قد نزل بأعلى مكة وضرب هناك فسطاطاً ضخماً. ونزل عبد الله بن الزبير داره بقيقعان. ثم تحول الحسين إلى دار العباس، حوّله إليها عبدالله بن عباس، وكان أمير مكة من قبل يزيد يومئذ عمر(14) بن سعد بن أبي وقاص، فأقام الحسين مؤذناً يؤذن رافعاً صوته فيصلي بالناس، وهاب ابن سعد أن يميل الحجاج مع الحسين لما يرى من كثرة اختلاف الناس اليه من الآفاق. فانحدر إلى المدينة وكتب بذلك إلى يزيد، وكان الحسين أثقل خلق الله على عبد الله بن الزبير لأنه كان يطمع أن يتابعه أهل مكة، فلما قدم الحسين اختلفوا إليه وصلوا معه، ومع ذلك فقد كان عبدالله يختلف اليه بكرةً وعشية ويصلي معه.
قال: وبلغ أهل الكوفة أن الحسين سار إلى مكة، وأقام الحسين بمكة باقي شهر شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة، وبمكة يومئذ عبدالله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب، فأقبلا جميعاً وقد عزما أن ينصرفا إلى المدينة حتى دخلا على الحسين، فقال عبد الله بن عمر: يا أبا عبد الله، اتق الله رحمك الله الذي اليه معادك، فقد عرفت عداوة هذا البيت لكم، و ظلمهم اياكم، وقد ولى الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية، ولست آمن أن يميل الناس اليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء فيقتلوك ويهلك فيك بشر كثير، فاني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: حسين مقتول؛ فلئن خذلوه ولم ينصروه ليخذلنهم الله إلى يوم القيامة، وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس وتصبر كما صبرت لمعاوية من قبل، فلعل الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين.
فقال له الحسين: يا أبا عبد الرحمن، أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه وفي أبيه ما قاله؟! فقال ابن عباس: صدقت يا أبا عبدالله قد قال النبي: مالي وليزيد لا بارك الله في يزيد، فانه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين بن علي، فوالذي نفسي بيده لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه، الاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم. ثم بكى ابن عباس وبكى معه الحسين.
ثم قال له: يا ابن عباس أتعلم أني ابن بنت رسول الله؟ فقال: اللهم نعم لا نعرف في الدنيا أحداً هو ابن بنت رسول الله غيرك، وأن نصرك لفرض على هذه الأمة كفريضة الصيام والزكاة التي لا تقبل احداهما دون الأخرى. فقال الحسين: يا ابن عباس فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله من وطنه وداره وموضع قراره ومولده، وحرم رسوله ومجاورة قبره، ومسجده وموضع مهاجرته، وتركوه خائفاً مرعوباً لا يستقر في قرار ولا يأوي إلى وطن يريدون بذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يشرك بالله شيئاً…
فقال ابن عباس: ما أقول فيهم الاّ أنهم كفروا بالله ورسوله لا يأتون الصلاة الاّ وهم كسالى (يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلا * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء)(15) فعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأما أنت أبا عبدالله فانك رأس الفخار ابن رسول الله وابن وصيه وفرخ الزهراء نظيرة البتول، فلا تظن يا ابن رسول الله بأن الله غافل عما يعمل الظالمون. وأنا أشهد أن من رغب عن مجاورتك ومجاورة بنيك فما له في الآخرة من خلاق. فقال الحسين: اللهم اشهد.
فقال ابن عباس: جعلت فداك يا ابن رسول الله كأنك تنعى اليّ نفسك وتريد مني أن أنصرك، فو الله الذي لا اله الاّ هو لو ضربت بين يديك بسيفي حتى ينقطع وتنخلع يداي جميعاً لما كنت ابلغ من حقك عشر العشير، وها أنا بين يديك فمرني بأمرك. فقال ابن عمر: اللهم عفواً، ذرنا من هذا يا ابن عباس.
ثم أقبل ابن عمر على الحسين وقال له: مهلا أبا عبدالله عما أزمعت عليه، وارجع معنا الى المدينة وادخل في صلح القوم ولا تغب عن وطنك وحرم جدك، ولا تجعل لهؤلاء القوم الذين لا خلاق لهم على نفسك حجةً وسبيلا، وان أحببت أن لا تبايع فانك متروك حتى ترى رأيك، فإن يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش الا قليلا، فيكفيك الله أمره، فقال الحسين: أف لهذا الكلام أبداً ما دامت السماوات والأرض، أسألك بالله يا أبا عبد الرحمن أعندك اني على خطأ من أمري هذا؟ فان كنت على خطأ فردني عنه فاني أرجع وأسمع وأطيع، فقال ابن عمر: اللهم لا ولم يكن الله تبارك وتعالى ليجعل ابن بنت رسوله على خطأ، وليس مثلك في طهارته وموضعه من الرسول ان يسلم على يزيد بن معاوية باسم الخلافه، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف وترى من هذه الأمة ما لا تحب، فارجع معنا الى المدينة، وان شئت أن لا تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك.
فقال له الحسين: هيهات يا ابن عمر، ان القوم لا يتركوني ان أصابوني، وان لم يصيبوني فانهم يطلبوني أبداً حتى أبايع وأنا كاره أو يقتلوني، ألا تعلم ـ أبا عبد الرحمن ـ أن من هوان هذه الدنيا على الله أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا الى بغيّ من بغايا بني اسرائيل، والرأس ينطق بالحجّة عليهم، فلم يضر ذلك يحيى بن زكريا بل ساد الشهداء فهو سيدهم يوم القيامة، ألا تعلم ـ أبا عبد الرحمن ـ أن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس سبعين نبياً ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنهم لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، ثم أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام. فاتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي يا ابن عمر…
فبكى ابن عباس وابن عمر ذلك الوقت بكاءاً شديداً، وبكى الحسين معهما ثم ودّعهما فصار ابن عباس وابن عمر إلى المدينة وأقام الحسين بمكة»(16).
روى ابن قولويه بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كتب الحسين بن علي من مكة إلى محمّد بن علي:
بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمّد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد، فان من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام»(17).
قال الخوارزمي: «ولما علم الناس بحال الحسين وإقامته بمكة، اجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فلما تكاملوا في منزله قام فيهم خطيباً، فحمد الله واثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه، ثم ذكر أمير المؤمنين ومناقبه وترحم عليه، ثم قال: يا معشر الشيعة انكم علمتم أن معاوية قد هلك فصار إلى ربه وقدم على عمله وسيجزيه الله تعالى بما قدم من خير وشر، وقد قعد بموضعه ابنه يزيد، وهذا الحسين بن علي قد خالفه وصار إلى مكة هارباً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبله وقد احتاج إلى نصرتكم اليوم، فان كنتم تعلمون انكم ناصروه ومجاهدوا عدوه فاكتبوا اليه، وان خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه. فقال القوم: بل نؤويه وننصره ونقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه حتى ينال حاجته. فأخذ عليهم سليمان بن صرد على ذلك عهداً وميثاقاً انهم لا يغدرون ولا ينكثون، ثم قال: فاكتبوا اليه الآن كتاباً من جماعتكم انكم له كما ذكرتم وسلوه القدوم عليكم فقالوا: افلا تكفينا أنت الكتاب؟ قال: بل تكتب إليه جماعتكم. فكتب القوم الى الحسين»(18).
وقال أهل السير: «بلغت الكتب اثني عشر ألفاً، فلما رأى الحسين عليه السلام ذلك دعا مسلم بن عقيل وأمره بالرحيل إلى الكوفة وأوصاه بما يجب وكتب معه إلى أهل الكوفة:
بسم الله الرحمن الرحيم: من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أما بعد، فان هانياً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم وكانا آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى، واني باعث اليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فان كتب اليّ أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فاني أقدم اليكم وشيكاً ان شاء الله. فلعمري ما الإمام الاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله. والسلام.
ودعا الحسين عليه السّلام مسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبى وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف فان رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل اليه بذلك.
فأقبل مسلم رحمه الله حتى أتى المدينة، فصلى في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وودّع من أحب من أهله، ثم أقبل حتى دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيب، وأقبل الشيعة تختلف اليه، فلما اجتمع اليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السّلام وهم يبكون وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً، فكتب مسلم إلى الحسين يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً ويأمره بالقدوم»(19).
قال الطبري: «وكان مسلم بن عقيل قد كان كتب إلى الحسين قبل أن يقتل لسبع وعشرين ليلة: أما بعد، فان الرائد لا يكذب أهله، انّ جمع أهل الكوفة معك. فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام عليك»(20).
ولما جاء كتاب مسلم بن عقيل إلى الحسين عليه السّلام عزم على الخروج إلى العراق ومنعه جمع من الصحابة وبني هاشم من الذهاب إلى الكوفة واستدلوا بأن أهلها غدروا بأبيه أمير المؤمنين وقتلوه، وطعنوا بأخيه الحسن بن علي حتى تركهم سخطاً وملالة لهم، ولكن الحسين عليه السّلام لم يمتنع وأجابهم بأنه مأمور وما قضى الله فهو كائن.
روى ابن قولويه باسناده عن أبي سعيد عقيصا قال: «سمعت الحسين بن علي عليه السّلام وقد خلا به عبد الله بن الزبير وناجاه طويلا، قال: ثم أقبل الحسين عليه السّلام بوجهه اليهم، وقال: ان هذا يقول لي: كن حماماً من حمام الحرم. ولأن أقتل وبيني وبين الحرم باع أحب الي من أن اقتل وبيني وبينه شبر، ولأن أقتل بالطف أحب الى من أن أقتل بالحرم»(21).
وروى بإسناده عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: «قال عبد الله بن الزبير للحسين: ولو جئت إلى مكة فكنت بالحرم، فقال الحسين عليه السّلام: لا نستحلها ولا تستحل بنا. ولأن أقتل على تلّ أعفر(22) أحب الي من أن أقتل بها»(23).
روى الطبري الامامي بإسناده عن عبد الله بن عباس، قال: «أتيت الحسين وهو يخرج الى العراق فقلت له: يا ابن رسول الله لا تخرج، فقال: يا ابن عباس، أما علمت ان منعتني من هناك فان مصارع أصحابي هناك، قلت له: فأنى لك ذلك؟ قال بسر سرّ لي وعلم أعطيته»(24).
وروى بإسناده عن الأعمش، قال: «قال لي أبو محمّد الواقدي وزرارة بن حلج: لقينا الحسين قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث ليال، فأخبرناه بضعف الناس في الكوفة وان قلوبهم معه وسيوفهم عليه، فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبواب السماء ونزل من الملائكة عدد لا يحصيهم الاّ الله، وقال: لو لا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء، ولكن أعلم أعلم علماً أن هناك مصرعي ومصارع اصحابي لا ينجو منهم الاّ ولدي علي»(25).
قال المسعودي: «ولما عزم الحسين على الخروج إلى العراق بعد أن كاتبه أهل الكوفة ووجه مسلم بن عقيل اليهم على مقدمته فكان من أمره ما كان وأراد الخروج، بعثت اليه أم سلمة اني أذكرك الله يا سيدي أن لا تخرج قال: ولم؟ قالت: سمعت رسول الله يقول: يقتل الحسين ابني بالعراق واعطاني من التربة قارورة أمرني بحفظها ومراعاة ما فيها، فبعث اليها: والله يا أماه اني لمقتول لا محالة فأين المفر من قدر الله المقدور؟ ما من الموت بد، واني لأعرف اليوم والساعة والمكان الذي أقتل فيه وأعرف مكاني ومصرعي والبقعة التي أدفن فيها وأعرفها كما أعرفك، فان أحببت أن اريك مضجعي ومضجع من يستشهد معي فعلت، قالت: قد شئت وحضرته، فتكلم باسم الله عزّوجل الاعظم فتخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومضجعهم وأعطاها من التربة حتى خلطتها معها بما كان، ثم قال لها: اني أقتل في يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرم بعد صلاة الزوال فعليك السلام رضي الله عنك يا أماه برضانا عنك. وكانت أم سلمة تسأل عن خبره وتراعي قرب عاشوراء»(26).
قال الخوارزمي: «جمع الحسين عليه السّلام أصحابه الذين عزموا على الخروج معه إلى العراق فأعطى كل واحد منهم عشرة دنانير وجملا يحمل عليه رحله وزاده، ثم انه طاف بالبيت وطاف بالصفا والمروة وتهيأ للخروج فحمل بناته وأخواته على المحمل، وفصل من مكة يوم الثلاثاء يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجة ومعه اثنان وثمانون رجلا من شيعته ومواليه وأهل بيته»(27).
وقال السيد ابن طاووس: «وروى أنه عليه السّلام لما عزم على الخروج قام خطيباً فقال: الحمد لله ما شاء الله ولا قوة الاّ بالله وصلى الله على رسوله، خطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني الى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين، لن تشذ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله لحمته وهي مجموعة له في حضيرة القدس، تقر بهم عينه وينجز بهم وعده، من كان باذلا فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً ان شاء الله تعالى»(28).
قال المفيد: «توجه الحسين صلوات الله عليه من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة، وهو يوم التروية بعد مقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين، وكان قد اجتمع إليه عليه السّلام مدة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه، ولما أراد الحسين عليه السّلام التوجه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل من إحرامه وجعلها عمرة لأنه لم يتمكن من تمام الحج مخافة أن يقبض عليه بمكة فينفذ به إلى يزيد بن معاوية فخرج عليه السّلام مبادراً بأهله وولده ومن انضم إليه من شيعته»(29).
روى ابن قولويه بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ان الحُسين عليه السّلام خرج من مكة قبل التروية بيوم فشيعه عبد الله بن الزبير فقال: يا أبا عبد الله لقد حضر الحج وتدعه وتأتي العراق؟ فقال: يا ابن الزبير لأن أدفن بشاطىء الفرات أحب الي من أن أدفن بفناء الكعبة»(30).
(1) بحار الأنوار ج44 ص310 الطبعة الحديثة.
(2) ينابيع المودة ص333، الباب الحادي والستون.
(3) سورة الاحزاب : 33 .
(4) قال الشيخ المفيد: «ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب» الارشاد ص183.
(5) مقتل الحسين ج1، الفصل التاسع ص177.
(6) سورة القصص: 21.
(7) ينابيع المودة ص334.
(8) اللهوف في قتلى الطفوف ص56.
(9) كامل الزيارات ص96.
(10) هامش مهيج الأحزان ص106.
(11) مقتل الحسين ج1 ص189.
(12) هامش مهيّج الأحزان ص106.
(13) سورة القصص: 22.
(14) هذا سهو، المشهور ان الأمير هو عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بـ (الأشدق).
(15) سورة النساء: 142ـ143.
(16) مقتل الحسين ج1 ص190.
(17) كامل الزيارات ص75.
(18) مقتل الحسين ج1 ص193.
(19) الإرشاد للشيخ المفيد ص185.
(20) تاريخ الطبري ج5 ص395.
(21) كامل الزيارات ص72.
(22) الأعفر: الرمل الأحمر.
(23) كامل الزيارات ص72.
(24) دلائل الإمامة ص74.
(25) دلائل الإمامة ص74.
(26) إثبات الوصية ص162.
(27) مقتل الحسين ج1 ص220.
(28) اللهوف في قتلى الطفوف ص52.
(29) الإرشاد ص200.
(30) كامل الزيارات ص73.