كرم الحسين
قال الخوارزمي: «قال الحسن البصري: كان الحسين بن علي سيّداً زاهداً ورعاً صالحاً ناصحاً حسن الخلق، فذهب ذات يوم مع أصحابه إلى بستانه، وكان في ذلك البستان غلام له اسمه صافي، فلما قرب من البستان رأى الغلام قاعداً يأكل خبزاً، فنظر الحسين إليه وجلس عند نخلة مستتراً لا يراه وكان يرفع الرغيف فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه الآخر، فتعجب الحسين من فعل الغلام، فلما فرغ من أكله قال: الحمد لله رب العالمين، اللهم اغفرلي، واغفر لسيدي وبارك له كما باركت على أبويه برحمتك يا أرحم الراحمين. فقام الحسين وقال: يا صافي، فقام الغلام فزعاً وقال: يا سيدي وسيد المؤمنين اني ما رأيتك فاعف عني. فقال الحسين: اجعلني في حلّ يا صافي لأني دخلت بستانك بغير اذنك، فقال صافي: بفضلك يا سيدي وكرمك وبسؤددك تقول هذا؟ فقال الحسين: رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب وتأكل النصف الآخر فما معنى ذلك؟ فقال الغلام: ان هذا الكلب ينظر إلي حين آكل فأستحي منه يا سيدي لنظره إلي، وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء فانا عبدك وهذا كلبك، فأكلنا رزقك معاً، فبكى الحسين وقال: أنت عتيق لله وقد وهبت لك ألفي دينار بطيبة من قلبي، فقال الغلام: ان اعتقتني فأنا أريد القيام ببستانك فقال الحسين: ان الرجل إذا تكلّم بكلام فينبغي أن يصدقه بالفعل، فأنا قد قلت: دخلت بستانك بغير اذنك، فصدقت قولي، ووهبت البستان وما فيه لك، غير أن أصحابي هؤلاء جاءوا لأكل الثمار والرطب فاجعلهم أضيافاً لك، واكرمهم من أجلي اكرمك الله يوم القيامة، وبارك لك في حسن خلقك وأدبك، فقال الغلام: ان وهبت لي بستانك فأنا قد سبلته لأصحابك وشيعتك، قال الحسن: فينبغي للمؤمن أن يكون كنافلة(1). رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).
وروى باسناده المتصّل «أن اعرابياً جاء إلى الحسين بن علي فقال له: يا ابن رسول الله اني قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها، فقلت في نفسي: اسأل أكرم الناس وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال الحسين: يا أخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل، فان أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال، وان أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال، وان أجبت عن الكل اعطيتك المال كله. فقال الأعرابي: يا ابن رسول الله أمثلك يسأل من مثلي، وأنت من أهل العلم والشرف؟ فقال الحسين: بلى سمعت جدي رسول الله يقول: المعروف بقدر المعرفة، فقال الأعرابي: سل عما بدالك، فان أجبت والا تعلمت الجواب منك، ولا قوة الاّ بالله، فقال الحسين: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الايمان بالله، قال: فما النجاة من الهلكة؟ قال: الثقة بالله. قال: فما يزين الرجل؟ قال: علم معه حلم، قال: فان أخطأه ذلك؟ قال فمال معه مروءة قال: فان اخطأه ذلك؟ قال:ففقر معه صبر قال: فان أخطأه ذلك؟ قال: فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه، فضحك الحسين ورمى بصرة اليه فيها ألف دينار، واعطاه خاتمه وفيه فصّ قيمته مائتا درهم وقال له: يا اعرابي أعط الذهب لغرمائك واصرف الخاتم في نفقتك، فأخذ الاعرابي ذلك منه ومضى وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته»(3).
وروى ابن عساكر باسناده عن الذيال بن حرملة، قال: «خرج سائل يتخطى أزقة المدينة حتى أتى باب الحسين بن علي فقرع الباب وأنشأ يقول:
لم يخب اليوم من رجاك ومن *** حرّك من خلف بابك الحلقة
فأنت ذو الجود أنت معدنه *** أبوك قد كان قاتل الفسقة
قال: وكان الحسين بن علي واقفاً يصلي، فخفف من صلاته وخرج إلى الاعرابي فرأى عليه أثر ضر وفاقة، فرجع ونادى بقنبر فأجابه: لبيك يا ابن رسول الله. قال: ما تبقى معك من نفقتنا؟ قال: مائتا درهم أمرتني بتفريقها في أهل بيتك، قال: فهاتها فقد أتى من هو أحق بها منهم، فأخذها من قنبر، وخرج فرفعها إلى الاعرابي وانشأ يقول:
خذها فإني اليك معتذر *** واعلم بأني عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا الغداة عصاً *** كانت سمانا عليك مندفقة
لكن ريب الزمان ذو نكد *** والكف منا قليلة النفقة
قال: فأخذها الاعرابي وولّى وهو يقول:
مطهرون نقيّات جيوبهم *** تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
وأنتم أنتم الأعلون عندكم *** علم الكتاب وما جاءت به السور
من لم يكن علوياً حين تنسبه *** فما له في جميع الناس مفتخر»(4)
وقال الخوارزمي: «سأل رجل الحسين حاجة، فقال له: يا هذا سؤالك اياي يعظم لدي ومعرفتي بما يجب لك يكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله قليل وما في ملكي وفاء بشكرك، فان قبلت بالميسور، دفعت عني مرارة الاحتيال لك، والاهتمام بما أتكلف من واجب حقّك. فقال الرجل: أقبل يا ابن رسول الله حقك اليسير وأشكر العطية، وأعذر على المنع. فدعا الحسين بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها، ثم قال له: هات الفاضل من الثلاثمائة ألف، فأحضر خمسين ألفاً قال: فما فعلت الخمسمائة دينار؟ قال: هي عندي، قال: احضرها، قال: فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل وقال: هات من يحمل معك هذا المال فأتاه بالحمالين فدفع اليهم الحسين رداءه لكراء حملهم حتى حملوه معه، فقال مولى له: والله ما بقي عندنا درهم واحد فقال: لكني أرجو أن يكون لي بفعلي هذا أجر عظيم»(5).
وقال: «خرج الحسن عليه السّلام إلى سفر فأضل طريقه ليلا، فمر براعي غنم فنزل عنده فألطفه وبات عنده، فلما أصبح دله على الطريق فقال له الحسن: اني ماض إلى ضيعتي ثم أعود إلى المدينة، ووقّت له وقتاً وقال له: تأتيني به، فلما جاء الوقت شغل الحسن بشيء من أموره عن قدوم المدينة، فجاء الراعي وكان عبداً لرجل من أهل المدينة، فصار إلى الحسين وهو يظنه الحسن، فقال: أنا العبد الذي بت عندي ليلة كذا ووعدتني أن أصير اليك في هذا الوقت، وأراه علامات عرف الحسين أنه الحسن فقال الحسين له: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لفلان، فقال: كم غنمك؟ قال: ثلاثمائة فأرسل إلى الرجل فرغّبه حتى باعه الغنم والعبد فأعتقه ووهب له الغنم مكافأة لما صنع مع أخيه وقال: ان الذي بات عندك أخي وقد كافأتك بفعلك معه»(6).
(1) النافلة: الذرّية من الاحفاد والأسباط.
(2) مقتل الحسين ج1 ص153.
(3) مقتل الحسين ج1 ص157، تفسير الفخر الرازي ج2 ص198 ط مصر.
(4) ترجمة الإمام الحسين من تاريخ مدينة دمشق ص160 رقم 205.
(5) مقتل الحسين ج1 ص153.
(6) مقتل الحسين ج1 ص153.