عليٌ و زهده في مأكله
روى الخوارزمي عن سويد بن غفلة، قال: «دخلت على عليّ بن أبي طالب عليه السلام القصر فوجدته جالساً وبين يديه صحفة فيها لبن حازر أجد ريحه من شدّة حموضته، وفي يديه رغيف أرى آثار قشار الشّعير في وجهه وهو يكسره بيده احياناً، فإذا أعيا عليه كسره بركبتيه وطرحه في اللّبن فقال: ادن فأصب من طعامنا هذا، فقلت: انّي صائم، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من منعه الصيام من طعام يشتهيه كان حقّاً على الله أن يطعمه من طعام الجنّة ويسقيه من شرابها. قال: فقلت لجاريته ـ وهي قائمة بقرب منه ـ ويحك يا فضّة ألا تتقّين الله في هذا الشيخ؟ ألا تنخلون له طعاماً ممّا أرى فيه من النّخالة، فقالت: لقد تقدّم الينا ألا ننخل له طعاماً، قال لي: ما قلت لها؟ فأخبرته فقال: بأبي وأمي من لم ينخل له طعام، ولم يشبع من خبز البّر ثلاثة أيّام حتّى قبضه الله عزّوجل»(1).
وروى عن عديّ بن ثابت، قال: «أتي علي بن أبي طالب عليه السلام بفالوذج فأبى أن يأكل منه، وقال: شيء لم يأكل منه رسول الله لا أحب أن آكل منه»(2).
روى الشبلنجي: «اشترى أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب تمراً بدرهم فحمله في ردائه فسأله بعض اصحابه حمله عنه، فقال: أبو العيال أحق بحمله»(3).
وروى أحمد عن عبدالله بن زرير، انه قال: «دخلت على علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الأضحى فقرب الينا خزيرة فقلت: أصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط يعني الوز، فان الله عزّوجل قد أكثر الخير فقال: يا ابن زرير، اني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: لا يحمل للخليفة من مال الله الاّ قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين يدي الناس»(4).
وروى سبط ابن الجوزي باسناده عن ابن عباس: «أقام أميرالمؤمنين عليه السلام بالكوفة مدة خمس سنين لم يأكل من طعامهم وما كان يأكل الاّ من شيء يأتيه من المدينة قال: وقدم اليه فالوذة فلم يأكله فقلت: أحرامٌ هو؟ قال: لا ولكني اكره أن اعوّد نفسي ما لم تعتد وما أكل منه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم أنشد:
جسمك بالحمية أقنيته *** من ضرر البارد والحار»(5)
روى عبد القاهر السهروردي: «سئل أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن الزهد فقال: هو أن لا تبالي بمن أكل الدنيا مؤمن أو كافر»(6).
وروى أحمد عن علي بن ربيعة: «ان علياً كان له امرأتان كان إذا كان يوم هذه اشترى لحماً بنصف درهم وإذا كان يوم هذه اشترى لحماً بنصف درهم»(7).
وروى عن مجاهد عن علي عليه السلام قال: «جئت إلى حائط او بستان فقال لي صاحبه: دلواً وتمرة فدلوت دلواً بتمرة فملأت كفي ثمّ شربت من الماء ثم جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بملء كفّي فأكل بعضه وأكلت بعضه».
وروى باسناده عن حبّة عن علي عليه السلام: «أنّه أتي بالفالوذج فوضع قدّامه فقال: انّك لطيب الريح، حسن اللون، طيب الطعم. ولكن اكره أن اعودّ نفسي ما لم تعتده»(8).
وروى باسناده عن علي عليه السلام قال: «ما أصبح بالكوفة أحد الاّ ناعماً. إنّ أدناهم منزلة ليأكل من البر ويجلس في الظّل ويشرب من ماء الفرات»(9).
وروى بأسناده عن الاعمش، قال: «كان علي يغدّي ويعشّي ويأكل هو من شيء يجيؤه من المدينة»(10).
روى البلاذري باسناده عن بكر بن الأسود عن أبيه الأسود بن قيس، قال: «كان علي عليه السلام يطعم الناس بالكوفة بالرحبة، فإذا فرغ أتى منزله فأكل، فقال رجل من اصحابه: قلت في نفسي: أظن أميرالمؤمنين يأكل في منزله طعاماً اطيب من طعام الناس، فتركت الطعام مع العامّة، ومضيت معه، فقال: اتغديّت؟ قلت: لا، قال: فانطلق معي فمضيت معه إلى منزله فنادى: يا فضّة، فجاءت خادم سوداء فقال: غدّينا، فجاءت بأرغفة وبجرّة فيها لبن فصبتها في صحفة وثردت الخبز قال: فاذاً فيه نخالة فقلت: يا أميرالمؤمنين، لو امرت بالدقيق فنخل، فبكى ثم قال: والله ما علمت انه كان في بيت رسول الله منخل قطّ»(11).
روى أحمد باسناده عن عدّي بن ثابت «انّ علياً أتي بفالوذج فلم يأكله»(12).
قال ابن أبي الحديد: «وروى بكر بن عيسى كان علي عليه السلام يقول: يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان فأنا خائن، فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع وكان يطعم الناس منها الخبز واللّحم ويأكل هو الثّريد بالزيت»(13).
وروى معاوية بن عمّار عن جعفر بن محمّد عليه السّلام: قال: «ما اعتلج على علي عليه السلام أمران في ذات الله الاّ أخذ بأشدّهما، ولقد علمتم انّه كان يأكل ـ يا أهل الكوفة ـ عندكم من ماله بالمدينة، وان كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب ويختم عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره، ومن كان أزهد في الدنيا من علي»(14).
وروى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة، قال: «دخلت على علي عليه السلام فإذا بين يديه لبن حامض، آذتني حموضته، وكِسَرٌ يابسة، فقلت يا أمير المؤمنين، اتأكل مثل هذا، فقال لي: يا أبا الجنوب كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يأكل ايبس من هذا ويلبس اخشن من هذا واشار إلى ثيابه، فإن أنا لم آخذ بما اخذ به خفت الاّ ألحق به»(15).
روى أبو نعيم باسناده عن زياد بن مليح «أنّ علياً اتي بشيء من خبيص فوضعه بين ايديهم فجعلوا يأكلون فقال علي عليه السلام: انّ الاسلام ليس ببكر ضال ولكن قريش رأت هذا فتناجزت (فتناحرت) عليه»(16).
روى سبط ابن الجوزي باسناده عن الاحنف بن قيس، قال: «دخلت على معاوية فقدم اليّ من الحلو والحامض ما كثر تعجبي منه، ثمّ قال: قدموا ذاك اللّون فقدموا لوناً ما أدري ما هو؟ فقلت: ما هذا؟ فقال: مصارين البط محشوة بالمخ، ودهن الفستق، قد ذرّ عليه السّكر، قال: فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: لله در ابن أبي طالب لقد جاد من نفسه بما لم تسمع به أنت ولا غيرك، فقال: وكيف؟ قلت: دخلت عليه ليلة عند افطاره، فقال لي: قم فتعشّ مع الحسن والحسين، ثمّ قام إلى الصّلاة، فلما فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه فأخرج منه شعيراً مطحوناً، ثم ختمه، فقلت: يا أميرالمؤمنين، لم اعهدك بخيلا، فكيف ختمت على هذا الشعير؟ فقال: لم اختمه بخلا ولكن خفت أن يبّسه الحسن والحسين بسمن أو إهالة، فقلت: أحرام هو؟ قال: لا ولكن على أئمّة الحق أن يتأسّوا بأضعف رعيّتهم حالا في الأكل واللبّاس، ولا يتميّزون عليهم بشيء لا يقدرون عليه ليراهم الفقير فيرضى عن الله تعالى بما هو فيه ويراهم الغني فيزداد شكراً وتواضعاً»(17).
قال أبو جعفر الاسكافي: «وكان رضي الله عنه إذا أتي بغلّة ماله من ينبع اشترى الزيت والعجوة واللحم فيتّخذ لنفسه ثريداً يأتدمه، ويطعم الناس اللحم، وذلك معروف منه ايّام كان بالكوفة»(18).
(1) المناقب، الفصل العاشر ص67، وابن أبي الحديد ج2 ص201، وسبط ابن الجوزي في التذكرة ص112.
(2) المناقب، الفصل العاشر ص68.
(3) نور الأبصار ص94.
(4) المسند ج1 ص78 ورواه ابن عساكر في ترجمة الامام علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق ج3 ص187 رقم 1231. وورد في مجمع الزوائد ج5 ص231 والبداية والنهاية ج8 ص3 وذخائر العقبى ص107.
(5) تذكرة الخواص ص115.
(6) عوارف المعارف ص483.
(7) كتاب الزهد ص131 وص133.
(8) كتاب الزهد ص131 وص133.
(9) الفضائل ج1 الحديث 6.
(10) المصدر ج1، الحديث 11، ورواه الوصابي في أسنى المطالب الباب الخامس عشر ص94 رقم 29.
(11) أنساب الأشراف ج2 ص187 رقم 229.
(12) الفضائل ج1 الحديث 13.
(13) شرح نهج البلاغة ج2 ص200 وص201 بتحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.
(14 و 15) نفس المصدر السابق.
(16) حلية الأولياء ج1 ص81.
(17) تذكرة الخواص ص110.
(18) المعيار والموازنة ص242.