عليٌ و حلمه
روى أحمد باسناده عن أبي مطر البصري: «انّه شهد علياً أتى اصحاب التمر وجارية تبكي عند التمار فقال: ما شأنك؟ قالت: باعني تمراً بدرهم فرده مولاي فأبى أن يقبله، قال: يا صاحب التمر، خذ تمرك واعطها درهمها فانّها خادم وليس لها أمرٌ قال: فدفع علياً! فقال له المسلمون: تدري من دفعت؟ قال: لا، قالوا: أميرالمؤمنين، فصبّ تمرها وأعطاها درهمها، قال: أحبّ أن ترضى عنّي قال: ما أرضاني عنك إذا وفيت الناس حقوقهم»(1).
وروى بأسناده عن أبي الوضاح الشيباني، قال: «حدثني رجل، قال: رأيت عليّاً مرّ بجارية تبتاع من لحام، فقالت: زدني فالتفت اليه عليّ، فقال: زدها ويحك، فانّه أعظم البركة للبيع»(2).
قال ابن أبي الحديد: «وأمّا الحلم والصفح فكان أحلم الناس عن مذنب واصفحهم عن مسيء، وقد ظهرت صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى النّاس له واشدّهم بغضاً فصفح عنه وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم الوغد اللّئيم عليّ ابن أبي طالب. وكان علي عليه السلام يقول: ما زال الزّبير رجلا منّا أهل البيت حتى شب عبد الله، فظفر به يوم الجمل، فأخذه أسيراً فصفح عنه وقال: اذهب فلا أرينك، لم يزده على ذلك، وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكّة وكان له عدوّاً فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً، وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره فلمّا ظفر بها اكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عمّمهنّ بالعمائم وقلدهنّ بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأفّفت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الّذين وكّلهم بي، فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهنّ وقلن لها: انّما نحن نسوة. وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيف وسبوه ولعنوه فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ونادى مناديه في اقطار العسكر: ألا لا يتّبع مولِّ ولا يجهز على جريح ولا يقتل مستأسر، ومن القى سلاحه فهو آمن، من تحيّز الى عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ اثقالهم ولا سبى ذراريهم ولا غنم شيئاً من اموالهم ولو شاء أن يفعل كلّ ذلك لفعل، ولكنه أبى الاَّ الصفح والعفو وتقيّل سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم فتح مكة فانه عفا والأحقاد لم تبرد والاساءة لم تنس، ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء وأحاطوا بشريعة الفرات وقالت رؤساء الشام له اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً، سألهم علي عليه السلام وأصحابه ان يسوغوا لهم شرب الماء فقالوا: لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفّان، فلما رأى عليه السلام انه الموت لا محالة تقدّم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرؤس والأيدي، وملكوا عليهم الماء وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم فقال له اصحابه وشيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ولا تسقهم منه قطرة واقتلهم بسيوف العطش وخذهم قبضاً بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب فقال: لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ففي حد السيف ما يغني عن ذلك. فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسناً، وان نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام»(3).
(1) الفضائل ج1 الحديث 182، واعلم أن الصفح والعفو من سنن الأنبياء والأوصياء، قال شقيق: «قال عبدالله: لقد رأيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يحكي نبياً من الأنبياء ويقول: اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون». (أخبار أصبهان ج2 ص149).
(2) الفضائل ج1، الحديث 183.
وذكر الحائري: «أنه يعني علياً رجع الى داره يوماً في وقت القيظ فإذا امرأة قائمة تقول: ان زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي وحلف ليضربني فقال عليه السلام: يا أمة الله اصبري حتى يبرد النهار ثم اذهب معك إن شاء الله فقالت: يشتد غضبه علي فطأطأ سلام الله عليه رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا حول ولا قوة الاّ بالله العلي العظيم لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه، أين منزلك؟ فمضى إلى بابه فوقف على بابه وقال: السلام عليكم فخرج شاب فقال علي عليه السلام: يا عبدالله اتق الله فانك قد أخفتها واخرجتها، فقال الفتى وما أنت وذاك والله لأحرقنها لكلامك، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام آمرك بالمعروف وانهاك عن المنكر، فتستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: السلام عليك يا أميرالمؤمنين، فسقط في يديه فقال: يا أميرالمؤمنين اقلني عثرتي، فوالله لأكونن لها أرضاً تطأني فقال عليه السلام يا أمة الله أدخلي منزلك ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه، وله عليه السلام انشأ في التواضع.
ودع التجبر والتكبر يا أخي *** ان التكبر للعبيد وبيل
واجعل فؤادك للتواضع منزلا *** ان التواضع بالشريف جميل»
(هدية الأبرار ص153).
(3) شرح نهج البلاغة طبع مصر ج1 ص7.