خلافة الحسن بن علي
روى الحاكم عن علي بن الحسين، قال: «خطب الحسن بن علي الناس حين قتل علي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يعطيه رايته فيقاتل وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فما يرجع حتى يفتح الله عليه وما ترك على أهل الأرض صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطاياه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله.
ثم قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وانا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي الى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل الينا ويصعد من عندنا وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً)(1) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت»(2).
قال المسعودي: «بويع الحسن بن علي بن أبي طالب بالكوفة بعد وفاة أبيه بيومين في شهر رمضان من سنة أربعين، ووجه عماله إلى السواد والجبال»(3).
وقال ابن شهر آشوب: «بويع بعد أبيه يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان في سنة أربعين»(4).
قال ابن أبي الحديد: «ولما توفي علي عليه السّلام خرج عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب إلى الناس فقال: ان أمير المؤمنين عليه السّلام توفي وقد ترك خلفاً، فان أحببتم خرج اليكم وان كرهتم فلا أحد على أحد فبكى الناس وقالوا: بل يخرج الينا، فخرج الحسن عليه السّلام فخطبهم، فقال: أيها الناس اتقوا الله فإنا أمراءُكم وأنا أهل البيت الذين قال الله فينا: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(5) فبايعه الناس وكان خرج اليهم وعليه ثياب سود»(6).
قال أبو الفرج: «ثم قام ابن عباس بين يده، فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له، وقالوا: ما أحبه الينا وأحقه بالخلافة، فبايعوه»(7).
قال الطبري: «وقيل: ان أول من بايعه قيس بن سعد(8)، قال له: أبسط يدك أبايعك على كتاب الله عزّوجل وسنة نبيه وقتال المحلين، فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنة نبيه، فان ذلك يأتي من وراء كل شرط، فبايعه وسكت، وبايعه الناس»(9).
روى الحاكم النيسابوري بأسناده عن زهير بن الأقمر ـ رجل من بني بكر بن وائل ـ قال: «لما قتل علي، قام الحسن يخطب الناس، فقام رجل… فقال: أشهد لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واضعه في حبوته، وهو يقول: من أحبني فليحبه وليبلغ الشاهد الغائب، ولو لا كرامة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما حدثت به أبداً».
وروى باسناده عن أبي إسحاق، قال: «بويع لأبي محمّد الحسن بن علي ابن أبي طالب بالكوفة، عقيب قتل أمير المؤمنين علي وأخذ البيعة عن أصحابه، (فحدثني) حارثة بن مضرب، قال: سمعت الحسن بن علي يقول: والله لا ابايعكم إلاّ على ما أقول لكم، قالوا: ما هي؟ قال: تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت، ولما تمت البيعة خطبهم»(10).
قال ابن قتيبة: «لما قتل علي بن أبي طالب، ثار الناس إلى الحسن بن علي بالبيعة، فلما بايعوه قال لهم: تبايعون لي علي السّمع والطاعة، وتحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت، فلما سمعوا ذلك ارتابوا وأمسكوا أيديهم وقبض هو يده، فأتوا الحسين فقالوا له: أبسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك وعلى حرب الحالين الضالين أهل الشام، فقال الحسين: معاذ الله أن أبايعكم ما كان الحسن حياً، قال: فانصرفوا إلى الحسن فلم يجدوا بدّاً من بيعته على ما شرط عليهم»(11).
وروى الصدوق بإسناده عن عبد الرحمان بن جندب عن أبيه وغيره: «أن الناس أتوا الحسن بن علي بعد وفاة علي عليهما السّلام، ليبايعوه فقال: الحمد لله على ما قضى من أمر وخصّ من فضل وعم من أمر وجلل من عافية، حمداً يتمم به علينا نعمه ونستوجب به رضوانه، ان الدنيا دار بلاء وفتنة وكل ما فيها إلى زوال، وقد نبأنا الله عنها كيما نعتبر، فقدم إلينا بالوعيد كي لا يكون لنا حجّة بعد الإنذار، فازهدوا فيما يفنى وارغبوا فيما يبقى، وخافوا الله في السر والعلانية، ان علياً عليه السّلام في المحيا والممات والمبعث عاش بقدر ومات بأجل، واني أبايعكم على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، فبايعوه على ذلك»(12).
قال ابن كثير: «فلما قتل علي، بايع أهل الكوفة الحسن بن علي وأطاعوه وأحبوه أشد من حبهم لأبيه»(13).
روى الشيخ المفيد بأسناده عن هشام بن حسان، قال: «سمعت أبا محمّد الحسن بن علي عليه السّلام يخطب الناس بعد البيعة له بالأمر فقال: نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمته التالي كتاب الله فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، فالمعول علينا في تفسيره، لا نتظنّى تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فانّ طاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة الله عزّوجل ورسوله مقرونة قال الله عزّوجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ)(14) (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(15).
وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان فانه لكم عدوٌ مبين، فتكونوا أولياءه الذين قال لهم: (لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ)(16) فتلقون إلى الرماح وزراً، وإلى السيوف جزراً، وللعمد حطماً، وللسهام غرضاً ثم (لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً)(17)(18).
قال الشيخ راضي ال ياسين: «ثم نزل من على منبره، فرتب العمال، وأمر الأمراء، ونظر في الأمور»(19).
قال أبو الفرج: «وكان أول شيء أحدث الحسن أنه زاد المقاتلة مائة مائة وقد كان علي فعل ذلك يوم الجمل، والحسن فعله على حال الإستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعد ذلك»(20).
قال المفيد: «وذلك في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة فرتب العمال وأمر الأمراء، وأنفذ عبد الله بن العباس إلى البصرة ونظر في الأمور.
فلما بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين عليه السّلام وبيعة الناس ابنه الحسن عليه السّلام دسّ رجلا من حمير الى الكوفة ورجلا من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسد على الحسن عليه السّلام الأمور، فعرف ذلك الحسن عليه السّلام فأمر باستخراج الحميري من عند لحام بالكوفة، فأخرج وأمر بضرب عنقه. وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فأخرج وضربت عنقه. وكتب الحسن عليه السّلام إلى معاوية:
أما بعد، فانك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال وأرصدت العيون كأنك تحب اللقاء وما أوشك ذلك فتوقعه، إن شاء الله تعالى، وبلغني أنك شمت بما لم يشمت به ذو حجى، وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول:
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى *** تجهز لأخرى مثلها فكأن قد
فأنا ومن قد مات منا لكالذي *** يروح فيمسي في المبيت ليغتدي»(21)
فأجابه معاوية: «أما بعد، فقد وصل كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، ولقد علمت بما حدث فلم أفرح ولم أحزن ولم أشمت ولم اس، وان علي بن أبي طالب كما قال أعشى بن قيس بن ثعلبة:
وأنت الجود وأنت الذي *** إذا ما القلوب ملأن الصدورا
جدير بطعنة يوم اللقاء *** تضرب منها النساء النحورا
وما مزبدٌ من خليج البحار *** يعلو الأكام ويعلو الجسورا
بأجود منه بما عنده *** فيعطي الألوف ويعطي البدورا
قال: وكتب عبدالله بن العباس من البصرة إلى معاوية:
أما بعد، فانك ودسّك أخا بني قين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش، مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية بن الأسكر:
لعمرك إني والخزاعي طارقاً *** كنعجة عاد حتفها تتحفر
أثارت عليها شفرة بكراعها *** فظلت بها من آخر الليل تنحر
شمت بقوم من صديقك أهلكوا *** أصابهم يوم من الدهر أصفر
وأجابه معاوية:
أما بعد، فان الحسن بن علي قد كتب إلي بنحو مما كتبت به، وأنبأني بما لم أجز ظناً وسوء رأى، وأنك لم تصب مثلكم ومثلي، ولكن مثلنا ما قاله طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر:
فوالله ما أدري واني لصادق *** إلى أي من يظّنّي(22) أتعذر
أعنّف ان كانت زبينة أهلكت *** ونال بني لحيان شرٌ فانفروا»(23)
قال ابن أبي الحديد: «وكتب الحسن إلى معاوية مع حرب بن عبد الله الأزدي: من الحسن بن علي أمير المؤمنين عليه السّلام إلى معاوية بن أبي سفيان، سلامٌ عليك، فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أما بعد: فان الله جل جلاله بعث محمّداً رحمة للعالمين ومنة للمؤمنين وكافة للناس أجمعين (لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) فبلغ رسالات الله وقام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر، ولا وان، وبعد أن أظهر الله به الحق ومحق به الشرك وخص به قريشاً خاصة فقال له: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) فلما توفي تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمّد وحقه، فرأت العرب أن القول ما قالت قريش وأن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمّد فأنعمت لهم وسلمت اليهم، ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها، انهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا أهل بيت محمّد وأولياءه إلى محاجتهم وطلب النصف منهم باعدونا واستولوا بالإجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا فالموعد الله وهو الولي النصير، ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا وان كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من افساده، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثّبك يا معاوية على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب وابن أعدى قريش لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لكتابه، والله حسيبك، فسترد وتعلم لمن عقبى الدار، وبالله لتلقين عن قليل ربك ثم ليجزينّك بما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد.
ان علياً لما مضى لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حياً، ولاّني المسلمون الأمر بعده فاسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة، وانما حملني على الكتابة اليك الأعذار فيما بيني وبين الله عزّوجل في أمرك ولك في ذلك ان فعلته الحظّ الجسيم والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فانك تعلم اني أحقّ بهذا الأمر منك، وعند الله وعند كل أوّاب حفيظ من له قلب منيب، واتق الله ودع البغي واحقن دماء المسلمين فوالله مالك خيرٌ في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر ممّا أنت لا قيه به، وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفيء الله النائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين، وان أنت أبيت الاّ التمادي في غيك سرت اليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
فكتب معاوية إليه: من عبدالله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي، سلام عليك، فاني أحمد الله الذي لا اله إلاّ هو، أما بعد: فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به محمّداً رسول الله من الفضل وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله قديمه وحديثه وصغيره وكبيره، وقد والله بلغ وأدّى ونصح وهدى حتى أنقذ الله به من الهلكة وأنار به من العمى وهدى به من الجهالة والضلالة، فجزاه الله أفضل ما جزى نبياً عن أمته وصلوات الله عليه يوم ولد ويوم بعث ويوم قبض ويوم يبعث حياً، وذكرت وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتنازع المسلمين الأمر بعده وتغلبهم على أبيك، فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواري رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وصلحاء المهاجرين والأنصار فكرهت ذلك لك، انك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين ولا المسيء ولا اللئيم وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل، ان هذه الأمة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ولا قرابتكم من نبيّكم ولا مكانكم في الإسلام وأهله، فرأت الأمة ان تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعوامهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاماً وأعلمها بالله وأحبها له وأقواها على أمر الله، فاختاروا أبا بكر وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل والناظرين للاُمة، فاوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة ولم يكونوا متهمين ولا فيما أتوا بالمخطئين، ولو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه ويقوم مقامه ويذب عن حريم الإسلام ذبّه ما عدلوا بالأمر إلى غيره رغبة عنه، ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحاً للإسلام وأهله والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيراً، وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلو علمت أنك اضبط مني للرعية وأحوط على هذه الأمة وأحسن سياسة وأقوى على جمع الأموال وأكيد للعدو لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ورأيتك لذلك أهلا، ولكن قد علمت أني أطول منك ولاية وأقدم منك بهذه الأمة تجربة وأكبر منك سناً، فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغاً ما يبلغ تحمله إلى حيث أحببت، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها إليك في كل سنة، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ولا تقضى دونك الأمور ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله، أعاننا الله واياك على طاعته انه سميع مجيب الدعاء، والسلام»(24).
قال أبو الفرج: «وكتب معاوية الى الحسن بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فان الله عزّوجل يفعل في عباده ما يشاء (لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(25) فاحذر أن تكون منيتك على يد رعاع من الناس، وايئس من أن تجد فينا غميزةً(26) وان أنت اعرضت عما أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت، وأجزت لك ما شرطت، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
وان أحد أسدى اليك أمانة *** فأوف بها تدعى إذا مت وافياً
ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى *** ولا تجفه ان كان في المال فانياً
ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها والسلام».
فأجابه الحسن بن علي: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، وصل إلي كتابك تذكر فيه ما ذكرت، فتركت جوابك خشية البغي عليك وبالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحق تعلم أني من أهله وعليّ اثم أن أقول فاكذب، والسلام.
فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه، ثم كتب إلى عماله على النواحي نسخة واحدة:
بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية أميرالمؤمنين إلى فلان بن فلان ومن قبله من المسلمين سلام عليكم: فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، أما بعد: فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم وقتلة خليفتكم ان الله بلطفه وحسن صنعه اتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله، فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فاقبلوا إلي حين يأتيكم كتابي هذا بجندكم وجهدكم وحسن عدتكم فقد اصبتم بحمد الله الثأر وبلغتم الأمل، وأهلك الله أهل البغي والعدوان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال: فاجتمعت العساكر إلى معاوية بن أبي سفيان، وسار قاصداً إلى العراق»(27).
قال اليعقوبي: «وأقبل معاوية لما انتهى اليه الخبر بقتل علي، فسار إلى الموصل بعد قتل علي بثمانية عشر يوماً»(28).
قال أبو الفرج: «وبلغ الحسن خبر مسيره وأنه بلغ جسر منبج فتحرك لذلك، وبعث حجر بن عدي يأمر العمال والناس بالتهيّؤ للمسير، ونادى المنادي: الصلاة جامعة، فأقبل الناس يثوبون ويجتمعون، فقال الحسن: إذا رضيت جماعة الناس فاعلمني، وجاء سعيد بن قيس الهمداني فقال: أخرج فخرج الحسن فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أمّا بعد: فإنَّ الله كتب الجهاد على خلقه، وسماه كرُهاً ثم قال لأهل الجهاد من المومنين (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(29) فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلاّ بالصبر على ما تكرهون، انه بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه، فتحرك لذلك، فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا. قال: وانه في كلامه ليتخوف خذلان الناس إياه، قال: فسكتوا فما تكلم منهم أحد ولا أجاب بحرف، فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قال: أنا ابن حاتم، سبحان الله، ما أقبح هذا المقام؟ ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم، أين خطباء مضر؟ أين المسلمون؟ أين الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جدّ الجد فروّاغون كالثعالب، أما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها.
ثم استقبل الحسن بوجهه فقال: أصاب الله بك المراشد، وجنبك المكاره ووفقك لما يحمد ورده وصدره، فقد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلى أمرك، وسمعنا منك، وأطعناك فيما قلت وما رأيت، وهذا وجهي إلى معسكري، فمن أحب أن يوافيني فليوافي، ثم مضى لوجهه فخرج من المسجد ودابّته بالباب، فركبها ومضى إلى النخيلة، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه، وكان عدي أول الناس عسكراً.
ثم قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي وزياد ابن صعصعة التيمي، فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم وكلموا الحسن بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة والقبول. فقال لهم الحسن: صدقتم ـ رحمكم الله ـ ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء بالقول والمودة الصحيحة، فجزاكم الله خيراً، ثم نزل.
وخرج الناس فعسكروا ونشطوا للخروج، وخرج الحسن إلى معسكره، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمره باستحثات الناس وإشخاصم إليه، فجعل يستحثهم ويخرجهم، حتى التأم المعسكر»(30).
قال المفيد: «ومعه ـ أي الحسن بن علي ـ أخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة [لم يهموا على نصر الحسن وانما كان همهم قتال معاوية]، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبايلهم لا يرجعون إلى دين»(31).
قال العلامة المجلسي: «روي عن الحارث الهمداني قال: لما مات علي عليه السّلام، جاء الناس الى الحسن عليه السّلام وقالوا: أنت خليفة أبيك ووصيّه، ونحن السامعون المطيعون لك فمرنا بأمرك، فقال عليه السّلام: كذبتم والله ما وفيتم لمن كان خيراً مني، فكيف تفون لي؟ وكيف أطمئن اليكم، ولا أثق بكم، ان كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائين فوافوا إلى هناك.
فركب وركب معه من أراد الخروج، وتخلف عنه كثير، فما وفوا بما قالوه وبما وعدوه، وغروه كما غروا أمير المؤمنين عليه السّلام من قبله، فقام خطيباً، وقال: غررتموني كما غررتم من كان من قبلي، مع أي إمام تقاتلون بعدي؟ مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو وبنو أمية إلاّ فرقا من السيف؟ ولو لم يبق لبني أمية إلاّ عجوز درداء لبغت دين الله عوجا، وهكذا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ثم وجه إليه قائداً في أربعة آلاف، وكان من كندة وأمره أن يعسكر بالأنبار ولا يحدث شيئاً حتى يأتيه أمره، فلما توجه إلى الأنبار ونزل بها، وعلم معاوية بذلك بعث إليه رسلا وكتب إليه معهم أنك إن أقبلت إلي أولّك بعض كور الشام والجزيرة، غير منفس عليك، وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم، فقبض الكندي عدو الله المال وقلب على الحسن وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته. فبلغ ذلك الحسن عليه السّلام فقام خطيباً وقال: هذا الكندي توجه إلى معاوية وغدر بي وبكم، وقد أخبرتكم مرة بعد مرة أنه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجه رجلا آخر مكانه، واني أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبه، ولا يراقب الله فيّ ولا فيكم، فبعث إليه رجلا من مراد في أربعة آلاف، وتقدم إليه بمشهد من الناس، وتوكد عليه وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي فحلف له بالأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنه لا يفعل، فقال الحسن: انه سيغدر، فلما توجه إلى الأنبار أرسل معاوية إليه رسلا وكتب إليه بمثل ما كتب إلى صاحبه، وبعث اليه بخمسة آلاف درهم، ومناه أي ولاية أحب من كور الشام والجزيرة فقلب على الحسن وأخذ طريقه إلى معاوية، ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود. وبلغ الحسن ما فعل المرادي فقام خطيباً، فقال: قد أخبرتكم مرة بعد أخرى أنكم لا تفون لله بعهود وهذا صاحبكم المرادي غدر بي وبكم، وسار إلى معاوية.
ثم كتب معاوية إلى الحسن: يا ابن عم، لا تقطع الرحم الذي بينك وبيني، فانّ الناس قد غدروا بك وبأبيك من قبلك، فقالوا: إن خانك الرجلان وغدروا بك فإنا مناصحون لك. فقال لهم الحسن: لأعودن هذه المرّة فيما بيني وبينكم واني لأعلم أنكم غادرون ما بيني وبينكم. ان معسكري بالنخيلة فوافوني هناك، والله لا تفون لي بعهدي، ولتنقضن الميثاق بيني وبينكم.
ثم ان الحسن أخذ طريق النخيلة، فعسكر عشرة أيام، فلم يحضره إلاّ أربعة آلاف فانصرف إلى الكوفة فصعد المنبر وقال: يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين، ولو سلمت له الأمر فايم الله لا ترون فرجاً أبداً مع بني أمية، والله ليسومونكم سوء العذاب حتى تتمنوا أن عليكم جيشاً جيشاً، ولو وجدت أعواناً ما سلمت له الأمر لأنه محرم على بني أمية، فأف وترحاً يا عبيد الدنيا. وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية: فانا معك، وان شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك، ثم أغاروا على فسطاطه، وضربوه بحربة، وأخذ مجروحاً.
ثم كتب جواباً لمعاوية: إنما هذا الأمر لي والخلافة لي ولأهل بيتي، وانها لمحرمة عليك وعلى أهل بيتك، سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والله لو وجدت صابرين عارفين بحقي غير منكرين ما سلمت لك ولا اعطيتك ما تريد وانصرف إلى الكوفة»(32).
قال أبو الفرج: «ثم ان الحسن بن علي سار في عسكر عظيم وعدة حسنة حتى أتى دير عبد الرحمان(33) فأقام به ثلاثاً حتى اجتمع الناس، ثم دعا عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب فقال: له يابن عم، اني باعث معك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقراء المصر الرجل منهم يزن الكتيبة فسر بهم، وألن لهم جانبك وابسط وجهك وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك فانهم بقية ثقة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات، ثم تصير إلى مسكن، ثم امض حتى تستقبل معاوية، فان أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك فاني في أثرك وشيكا وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين، يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس، فإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك، فإن فعل فقاتل، فان أصبت فقيس بن سعد على الناس، وان اصيب قيس فسعيد بن قيس على الناس ثم أمره بما أراد، وسار عبيد الله حتى انتهى إلى شينور حتى خرج إلى شاهي، ثم لزم الفرات والفالوجة حتى أتى مسكن»(34).
وقال: «وأخذ الحسن على حمام عمر حتى أتى دير كعب، ثم بكر فنزل ساباط دون القنطرة فلما أصبح نادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، وصعد المنبر فخطبهم، فحمد الله فقال: الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلاّ الله كلما شهد له شاهد وأشهد أن محمّد رسول الله، أرسله بالحق، وائتمنه على الوحي صلى الله عليه وآله.
أما بعد: فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا انصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ولا مريداً له سوءاً ولا غائلةً، ألا وان ما تكرهون في الجماعة خيرٌ لكم مما تحبون في الفرقة، ألا واني ناظرٌ لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا علي رأيي غفر الله لي ولكم، وأرشدني واياكم لما فيه المحبة الرضا.
قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما ترونه يريد؟ قالوا: نظنه والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر اليه، فقالوا: كفر والله الرجل. ثم شدوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمان بن عبد الله بن جعال الازدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالساً متقلداً السيف بغير رداء، ثم دعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوا منه من أراده، ولاموه وضعفوه لما تكلم به، فقال: أدعوا لي ربيعة وهمدان، فدعوا له فأطافوا به، ودفعوا الناس عنه، ومعهم شرب من غيرهم، فقام إليه رجل من بني أسد من بني نصر بن قعين يقال له الجراح بن سنان، فلما مر في مظلم ساباط قام إليه فأخذ بلجام بغلته وبيده المغول، فقال: الله أكبر يا حسن، أشركت كما أشرك أبوك من قبل، ثم طعنه، فوقعت الطعنة في فخذه فشقته حتى بلغت أربيته، فسقط الحسن عليه السّلام إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده واعتنقه، وخرّا جميعاً إلى الأرض، فوثب عبد الله بن الخطل فنزع المغول من يد جراح بن سنان فخضخضه به، وأكب ظبيان بن عمارة عليه، فقطع أنفه ثم أخذوا الآخر، فشدخوا وجهه ورأسه حتى قتلوه.
وحمل الحسن على سرير إلى المدائن، وبها سعد بن مسعود الثقفي والياً عليها من قبله، وكان علي ولاه فأقره الحسن بن علي، فأقام عنده يعالج نفسه(35) قال: ثم ان معاوية وافى حتى نزل قرية يقال لها الجنوبية بمسكن، فأقبل عبيد الله بن العباس حتى نزل بازائه، فلما كان من غد وجه معاوية بخيله إليه فخرج اليهم عبيد الله بن العباس فيمن معه، فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم، فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن العباس أن الحسن قد راسلني في الصلح وهو مسلم الأمر إلي، فان دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلا دخلت وأنت تابع، ولك ان جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم يعجل لك في هذا الوقت النصف وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر، فانسل عبيد الله ليلا، فدخل عسكر معاوية، فوفى له بما وعده، فاصبح الناس ينتظرون أن يخرج فيصلي بهم فلم يخرج حتى أصبحوا فطلبوه فلم يجدوه، فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ثم خطبهم، فقال:
أيها الناس، لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الوله الورع، ان هذا واباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، ان أباه عم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج يقاتله ببدر، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، فأتى به رسول الله، فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين، وان أخاه ولاه علي أمير المؤمنين على البصرة فسرق مال الله ومال المسلمين فاشترى به الجواري وزعم أن ذلك له حلال، وأن هذا ولاه على اليمن، فهرب من بسر بن ارطأة وترك ولده حتى قتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع. قال: فتنادى الناس: الحمد لله الذي أخرجه من بيننا، فانهض بنا إلى عدونا، فنهض بهم وخرج اليهم بسر بن ارطاة في عشرين الفاً، فصاحوا بهم: هذا أميركم قد بايع، وهذا الحسن قد صالح، فعلام تقتلون انفسكم؟»(36).
روى ابن عساكر بأسناده عن مجالد عن الشعبي وعن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه وعن أبي السفر وغيرهم قالوا: «بايع أهل العراق بعد علي بن أبي طالب، الحسن بن علي ثم قالوا له: سر إلى هؤلاء القوم الذين عصوا الله ورسوله وارتكبوا العظيم، وابتزوا الناس أمورهم فانا نرجو أن يمكننا الله منهم. فسار الحسن إلى أهل الشام وجعل على مقدمته قيس بن سعد بن عبادة في اثني عشر ألفاً وكانوا يسمون شرطة الخميس وقال غيره وجه إلى الشام عبيد الله ابن العباس ومعه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فسار فيهم قيس حتى نزل مسكن والأنبار وناحيتها.
وسار الحسن حتى نزل المدائن وأقبل معاوية في أهل الشام يريد الحسن حتى نزل جسر منبج، فبينا الحسن بالمدائن إذ نادى مناد في عسكره: ألا إن قيس ابن سعد قد قتل، قال: فشد الناس على حجرة الحسن فانتهبوها حتى انتهبت بسطه وجواريه وأخذوا رداءه من ظهره، وطعنه رجل من بني أسد يقال له إبن أقيصر بخنجر مسموم في اليته فتحول من مكانه الذي انتهب فيه متاعه ونزل الأبيض قصر كسرى، وقال: عليكم لعنة الله من أهل قرية، فقد علمت أنه لا خير فيكم قتلتم أبي بالأمس واليوم تفعلون بي هذا»(37).
قال المفيد: «كتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وانفذ إليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه، فاشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطاً كثيرة وعقد له عقوداً كان في الوفاء بها مصالح شاملة، فلم يثق به الحسن وعلم باحتياله بذلك واغتياله، غير أنه لم يجد بداً من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له، وما انطوى عليه كثيرٌ منهم في استحلال دمه وتسليمه إلى خصمه، وما كان من خذلان لابن عمه له ومصيره إلى عدوه وميل الجمهور منهم إلى العاجلة وزهدهم في الآجلة. فتوثق عليه السّلام لنفسه من معاوية بتوكيد الحجة عليه والاعذار فيما بينه وبين الله تعالى وعند كافة المسلمين، واشترط عليه ترك سب أمير المؤمنين، والعدل عن القنوت عليه في الصلاة، وأن يؤمن شيعته رضي الله عنهم، ولا يتعرض لأحد منهم بسوء ويوصل إلى كل ذي حق منهم حقه. فأجابه معاوية إلى ذلك كله وعاهده عليه وحلف له بالوفاء به»(38).
روى الشيخ الصدوق بإسناده عن يوسف بن مازن الراسبي(39) قال: «بايع الحسن بن علي صلوات الله عليه معاوية على أن لا يسميه أمير المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة، وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي شيئاً، وعلى أن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد. قال: ما ألطف حيلة الحسن صلوات الله عليه هذه في إسقاطه إياه عن إمرة المؤمنين، قال يوسف: فسمعت القاسم بن محيمة يقول: ما وفى معاوية للحسن بن علي عليه السّلام بشيء عاهده عليه، واني قرأت كتاب الحسن عليه السّلام إلى معاوية يعد عليه ذنوبه إليه وإلى شيعة علي عليه السّلام فبدأ يذكر عبد الله بن يحيى الحضرمي ومن قتلهم معه.
فنقول رحمك الله ان ما قال يوسف بن مازن من أمر الحسن ومعاوية عند أهل التمييز والتحصيل تسمى المهادنة والمعاهدة، ألا ترى كيف يقول: ما وفى معاوية للحسن بن علي عليه السّلام بشيء عاده عليه وهادنه ولم يقل بشيء بايعه عليه والمبايعة على ما يدعيه المدعون على الشرائط التي ذكرناها ثم لم يف بها لم يلزم الحسن. وأشد ماها هنا من الحجة على الخصوم معاهدته إياه أن لا يسميه أمير المومنين والحسن عليه السّلام عند نفسه لا محالة مؤمن، فعاهده أن لا يكون عليه أميراً، إذ الأمير هو الذي يأمر فيؤتمر له، فاحتال الحسن صلوت الله عليه لاسقاط الايتمار لمعاوية إذ أمره أمراً على نفسه، والأمير هو الذي أمره مأمور من فوقه، فدل على أنه عزّوجل لم يؤمره عليه ولا رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمره عليه»(40).
روى الخوارزمي بأسناده عن رباح بن الحارث قال: «سمعت الحسن بن علي وهو يخطب بالمدائن الناس فقال: ألا إن أمر الله واقع وان كره الناس، واني ما أحب أن يكون لي من أمر أمة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم مثقال حبة من خردل يهراق فيه ملء محجمة من دم، إذ علمت ما ينفعني مما يضرني واني لا أجدي لأحد لي ولكم فاحلقوا بطمأنينتكم يعني بأمنكم»(41).
قال الحضرمي: «وكان صلحه هذا ـ رضي الله تعالى عنه ـ من أعظم التدبير ومن خفي اللطف الذي جرت به المقادير ـ فانه ـ رضي الله تعالى عنه ـ حقن به دماء خلق كثير وفاز فيه بأجر كبير»(42).
قال المفيد: «فلما استتمت الهدنة على ذلك سار معاوية حتى نزل بالنخيلة وكان ذلك يوم الجمعة، فصلى بالناس ضحى النهار فخطبهم وقال في خطبته: إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا انكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، ألا وإني كنت منيت الحسن عليه السّلام أشياء وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له.
ثم سار حتى دخل الكوفة فاقام بها اياماً فلما استتمت البيعة له من أهلها صعد المنبر فخطب الناس وذكر أمير المؤمنين عليه السّلام ونال منه، ونال من الحسن عليه السّلام ما نال، وكان الحسن والحسين عليهما السّلام حاضرين، فقام الحسين عليه السّلام ليرد عليه فأخذ بيده الحسن عليه السّلام وأجلسه، ثم قام فقال: أيها الذاكر علياً أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك حرب وجدتي خديجة وجدتك فتيلة، فلعن الله أخملنا ذكراً وألأمنا حسباً وشرنا قدماً وأقدمنا كفراً ونفاقاً، فقالت طوائف من أهل المسجد: آمين آمين»(43).
(1) سورة الشورى: 23.
(2) المستدرك على الصحيحين ج3 ص172، ورواه محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص138.
(3) مروج الذهب ج3 ص4.
(4) المناقب ج4 ص28.
(5) سورة الاحزاب: 33.
(6) شرح نهج البلاغة ج4 ص8 طبعة مصر.
(7) مقاتل الطالبين ص52.
(8) قال ابن سعد كاتب الواقدي: «ولم يزل قيس بن سعد مع علي حتى قتل علي فصار مع الحسن بن علي فوجهه على مقدمته يريد الشام، ثم صالح الحسن بن علي معاوية فرجع قيس إلى المدينة فلم يزل بها حتى توفي في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان» الطبقات الكبرى ج6 ص34.
(9) تاريخ الطبري ج5 ص158.
(10) المستدرك على الصحيحين ج3 ص173.
(11) الامامة والسياسة = تاريخ الخلفاء الراشدين ج1 ص150.
(12) التوحيد للصدوق ص378.
(13) البداية والنهاية ج8 ص41.
(14) سورة النساء: 59.
(15) سورة النساء: 83.
(16) سورة الانفال: 48.
(17) سورة الأنعام: 158.
(18) بحار الأنوار ج43 ص359 الطبعة الحديثة.
(19) صلح الحسن ص60.
(20) مقاتل الطالبين ص55.
(21) الإرشاد ص170.
(22) يظّنّ: إفتعل من الظنّة بالكسر أي التهمة، أصله اظتنّ، أبدلت التاء إلى الظاء، ثم أدغمت في الأولى.
(23) مقاتل الطالبين ص53.
(24) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص12 طبع بيروت.
(25) سورة الرعد : 41.
(26) الغميزة : المطعن.
(27) مقاتل الطالبيين ص59.
(28) تاريخ اليعقوبي ج2 ص204.
(29) سورة الأنفال: 46.
(30) مقاتل الطالبيين ص60.
(31) الإرشاد ص171.
(32) بحار الأنوار ج44 ص43 الطبعة الحديثة.
(33) كان دير عبد الرحمان هذا مفرق الطريق بين معسكري الإمام في المدائن، ومسكن وللإمام الحسن عليه السّلام خطته من هذين المعسكرين، أما المدائن، فكانت رأس الجسر صوب فارس والبلاد المتاخمة لها، وهي بموقعها الجغرافي النقطة الوحيدة التي تحمي الخطوط الثلاث التي تصل كلا من الكوفة والبصرة وفارس بالأخرى، وتقف بقيمتها العسكرية درعاً في وجه الأحداث التي تنذر بها ظروف الحرب، وأما مسكن فكانت أقصى المناطق الخاضعة لحكومة الكوفة آنذاك.
صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين ص103.
(34) مقاتل الطالبين ص62.
(35) أورد قسماً من هذه الحادثة الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين ج3 ص174.
(36) مقاتل الطالبيين ص63.
(37) ترجمة الإمام الحسن من تاريخ مدينة دمشق ص176 رقم 298.
(38) الإرشاد ص172.
(39) توجد ترجمته في التاريخ الكبير ج8 رقم3375.
(40) علل الشرايع الباب 159 ص212.
(41) مقتل الحسين ج1 ص134.
(42) وسيلة المآل في عد مناقب الآل عليهم السّلام ص344 مخطوط.
(43) الإرشاد ص173.