الإمام الحسن بن علي ولائموه
قال ابن قتيبة: «لما تمت البيعة لمعاوية بالعراق وانصرف راجعاً إلى الشام أتاه سليمان بن صرد ـ وكان غائباً عن الكوفة، وكان سيد أهل العراق ورأسهم ـ فدخل على الحسن فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين! فقال الحسن: وعليك السلام، اجلس لله أبوك قال: فجلس سليمان وقال: أما بعد فإن تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق وكلهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك بقية في العهد ولا حظاً من القضية، فلو كنت إذ فعلت ما فعلت، وأعطاك ما اعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق، كنت كتبت عليك بذلك كتاباً وأشهدت عليه شهوداً من أهل المشرق والمغرب أن هذا الأمر لك من بعده كان الأمر علينا أيسر، ولكنه أعطاك هذا فرضيت به من قوله، ثم قال: وزعم على رؤوس الناس ما قد سمعت إني كنت شرطت لقوم شروطاً ووعدتهم عدات ومنيتهم أماني إرادة اطفاء نار الحرب ومداراة لهذه الفتنة، إذ جمع الله لنا كلمتنا وألفتنا، فان كل ما هنالك تحت قدمي هاتين، والله ما عني بذلك إلاّ نقض ما بينك وبينه، فأعدّ للحرب خدعة واذن لي أشخص إلى الكوفة، فأخرج عامله منها وأظهر فيها خلعه وأنبذ إليه على سواء، ان الله لا يهدي كيد الخائنين. ثم سكت.
فتكلم كل من حضر مجلسه بمثل مقالته وكلّهم يقول: إبعث سليمان بن صرد وابعثنا معه ثم الحقنا إذا علمت أنا قد أشخصنا عامله وأظهرنا خلعه.
فتكلم الحسن فحمد الله ثم قال:
أما بعد، فانكم شيعتنا وأهل مودتنا، ومن نعرفه بالنصيحة والاستقامة لنا، وقد فهمت ما ذكرتم، ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا وللدنيا اعمل وأنصب، ما كان معاوية بأبأس مني وأشد شكيمة ولكان رأيي غير ما رأيتم، ولكنّي، اشهد الله وإياكم أني لم أرد بما رأيتم إلاّ حقن دمائكم وإصلاح ذات بينكم، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله وسلّموا الأمر لله والزموا بيوتكم وكفوا أيديكم حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، مع أن أبي كان يحدثني أن معاوية سيلي الأمر، فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر، انّ الله لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.
وأما قولك: يا مذل المؤمنين، فوالله لأن تذلوا وتعافوا أحب إلي من أن تعزوا وتقتلوا، فان رد الله علينا حقنا في عافية قبلنا وسألنا الله العون على أمره، وان صرفه عنا رضينا وسألنا الله أن يبارك في صرفه عنا. فليكن كل رجل منكم جلساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حياً، فان يهلك ونحن وأنتم أحياء سألنا الله العزيمة على رشدنا والمعونة على أمرنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا، فان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون»(1).
وروى الحاكم بأسناده عن يوسف بن مازن الراسبي قال: «قام رجل إلى الحسن ابن علي، فقال: يا مسوّد وجوه المؤمنين!! فقال الحسن: لا تؤنبني رحمك الله، فان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) نهر في الجنة ونزلت (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر)تملكها بنو أمية فحسبنا ذلك فإذا هو لا يزيد ولا ينقص. هذا اسناد صحيح، وهذا القائل للحسن ابن علي هذا القول، هو سفيان بن الليل صاحب أبيه»(2).
وروى ابن عساكر باسناده عن هزان قال: «قيل للحسن بن علي: تركت أمارتك وسلمتها إلى رجل من الطلقاء وقدمت المدينة؟ فقال: اني اخترت العار على النار»(3).
وروى بأسناده عن فضيل بن مرزوق قال: «أتى مالك بن ضمرة الحسن ابن علي فقال: السلام عليك يا مسخّم وجوه المؤمنين، قال: يا مالك لا تقل ذلك، اني لما رأيت الناس تركوا ذلك إلاّ أهله، خشيت أن تجتثوا عن وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين في الأرض ناعي فقال: بأبي أنت وأمي، ذرية بعضها من بعض»(4).
روى الحمويني بأسناده عن أبي سعيد عقيصا، قال: «لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السّلام معاوية بن أبي سفيان، دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته، فقال عليه السّلام: ويحكم ما تدرون ما عملت؟ والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت.
ألا تعلمون أني إمامكم ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علي؟ قالوا: بلى.
قال: أما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً.
أما علمتم أنه ما منا أحد إلاّ ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلاّ القائم الذي يصلي روح الله عيسى بن مريم خلفه، فان الله عزّوجل يخفي ولادته ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، وذلك التاسع من ولد أخي الحسين وابن سيدة الاماء يطيل الله عمره في غيبته ثم يظهره بقدرته في صورة شباب دون أربعين سنة، وذلك ليعلم أنّ الله على كل شيء قديرٌ»(5).
ورواه الصدوق بأسناده عن أبي سعيد عقيصا(6).
وروى ابن أبي الحديد عن سفيان بن أبي الليل(7)، قال: «أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية فوجدته بفناء داره وعنده رهط فقلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال: وعليك السلام يا سفيان، ونزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه فقال: كيف قلت يا سفيان؟ قلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال: لم جرى هذا منك الينا؟ قلت: أنت والله بأبي وأمي أذللت رقابنا حيث أعطيت هذا الطاغية البيعة وسلمت الأمر الى اللعين ابن آكلة الأكباد ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك فقد جمع الله عليك أمر الناس فقال: يا سفيان، انا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به، واني سمعت علياً يقول: سمعت رسول الله يقول: لا تذهب الليالي والأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرة ضخم البلعوم يأكل ولا يشبع، لا ينظر الله إليه ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر، وانه لمعاوية واني عرفت أن الله بالغ أمره، ثم أذن المؤذن وقمنا على حالب يحلب ناقة فتناول الإناء فشرب قائماً ثم سقاني وخرجنا نمشي إلى المسجد فقال لي: ما جاء بك يا سفيان؟ قلت: حبكم والذي بعث محمّداً بالهدى ودين الحق، قال: فأبشر يا سفيان فإني سمعت علياً يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: يرد علي الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي كهاتين يعني السبابتين أو كهاتين يعني السبابة والوسطى أحداهما تفضل على الأخرى، أبشر يا سفيان، فان الدنيا تسع البر والفاجر حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمّد»(8).
وروى محمّد بن محسن الكاشاني بأسناده عن زيد بن وهب الجهني، قال: «لما طعن الحسن بن علي عليهما السلام بالمدائن أتيته وهو متوجع، فقلت: ماترى يا ابن رسول الله؟ فان الناس متحيرون، فقال: أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً، فوالله لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمن علي فيكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منا وعلى الميت قال: قلت: تترك يا ابن رسول الله شيعتك كالغنم ليس له راع؟ قال: وما أصنع يا أخا جهينة، اني والله لأعلم بأمر قد أدّى به إلي عن ثقاته أن أمير المؤمنين قال لي ذات يوم وقد رآني فرحاً: يا حسن أتفرح؟ كيف بك إذا رأيت اباك قتيلا! أم كيف بك إذا ولي هذا الأمر بنو أمية وأميرها الرحب البلعوم، الواسع الأعفاج، يأكل ولا يشبع، يموت وليس له في السماء ناصر ولا في الأرض عاذر، ثم يستولي على شرقها وغربها، يدين له العباد ويطول ملكه، يستن بسنن البدع والضلال، ويميت الحق وسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقسم المال في أهل ولايته ويمنعه من هو أحق به، يذل في ملكه المؤمن ويقوى في سلطانه الفاسق ويجعل المال بين انصاره دُولا، ويتخذ عباد الله خولا، يدرس في سلطانه الحق ويظهر الباطل، ويلعن الصالحون ويقتل من ناواه على الحق ويدين من والاه على الباطل، وكذلك حتى يبعث الله رجلا في آخر من الزمان وكلب من الدهر وجهل من الناس، يؤيده الله بملائكته ويعصم انصاره وينصره بآياته ويظهره على الأرض حتى يدينوا طوعاً وكرهاً يملأ الأرض قسطاً وعدلا ونوراً وبرهاناً، كما ملئت ظلماً وجوراً، يدين له عرض البلاد وطولها، لا يبقى كافر إلاّ آمن ولا طالح إلا صلح، ويصطلح في ملكه السباع، وتخرج الأرض نبتها وينزل من السماء بكرتها ويظهر له الكنوز، يملك ما بين الخافقين أربعين عاماً فطوبى لمن ادرك أيامه وسمع كلامه»(9).
قال ابن شهر آشوب: «قال المسيب بن نجبة الفزاري وسليمان بن صرد الخزاعي للحسن بن علي عليه السّلام: ما ينقضي تعجبنا منك، بايعت معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من الكوفة سوى أهل البصرة والحجاز، فقال الحسن: قد كان ذلك، فما ترى الآن؟ فقال: والله أرى أن ترجع لأنه نقض العهد فقال: يا مسيب ان الغدر لا خير فيه ولو أردت لما فعلت»(10).
وقال: «قال حجر بن عدي: أما والله لوددت أنك متّ في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم، فانا رجعنا راغمين بما كرهنا ورجعوا مسرورين بما أحبّوا.
فلما خلا به الحسن عليه السّلام قال: يا حجر قد سمعت كلامك في مجلس معاوية وليس كل انسان يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك، واني لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاء عليكم والله تعالى كل يوم في شأن»(11).
أقول: تعتقد الشيعة في الإمام أنه باب مدينة من لا ينطق عن الهوى، وأنه مستودع سر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن أعماله لا تتخلف عن الواقع ولا تتعدى الحق، إذ الإمام معصوم من كل خطأ، ولا يفعل إلاّ ما هو رضى الله سبحانه، وما فيه صلاح الأمة.
قال السيد المرتضى: «فإن قال قاتلٌ: ما العذر له في خلع نفسه من الإمامة وتسليمها إلى معاوية مع ظهور فجوره وبعده عن أسباب الإمامة وتعريه من صفات مستحقها، ثم في بيعته وأخذ عطائه وصلاته وإظهار موالاته والقول بإمامته هذه، مع وفور أنصاره وإجتماع أصحابه ومتابعة من كان يبذل عنه دمه وماله، حتى سموه مذل المؤمنين وعاتبوه في وجهه عليه السّلام؟.
قلنا: قد ثبت أنه عليه السلام الإمام المعصوم المؤيد الموفق بالحجج الظاهرة والأدلة القاهرة، فلا بدّ من التسليم لجميع أفعاله وحملها على الصحة، وان كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل، أو كان له ظاهر ربما نفرت النفوس عنه»(12).
وقال السيد ابن طاووس مخاطباً ولده: «وليس بغريب من قوم أعابوا جدك الحسن عليه السّلام على صلح معاوية وهو كان بأمر جده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد صالح جده الكفار وكان عذره في ذلك أوضح الأعذار، فلما قام أخوه الحسين عليه السّلام بنصرهم وأجابة سؤلهم وترك المصالحة ليزيد المارق، كانوا بين قاتل وخاذل حتى ما عرفنا أنهم غضبوا في أيام يزيد لذلك القتل الشنيع ولا خرجوا عليه ولا عزلوه عن ولايته، وغضبوا لعبد الله بن الزبير وساعدوه على ضلالته وافتضحوا بهذه المناقضة الهائلة وظهر سوء اختياراتهم النازلة، فهل يستبعد من هؤلاء ضلال عن الصراط المستقيم وقد بلغوا إلى هذا الحال السقيم العظيم الذميم»(13).
وقال أيضاً: «ان مولانا الحسن بن علي عليهما السّلام والأئمة من أهل البيت عليهم السلام كانوا يريدون الخلافة كما أمرهم الله جل جلاله، وعلى الوجه الذي يختارها لهم، ومعاوية وزياد كانوا يريدونها بالمغالبة، قال: حدثنا صدقة الصنعاني عن رياح بن زيد عن معمر بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس، قال: لما أصيب علي عليه السّلام وبايع الناس الحسن عليه السّلام قال لي زياد: أتريد أن يستقيم الأمر؟ قال: قلت: نعم، قال: فاقتل فلاناً وفلاناً ثلاثة من اصحابه قال: قلت: اليس قد صلوا صلاة الغداة؟ قال: بلى، قال: قلت: فلا والله ما إلى ذلك سبيل»(14).
أقول: وعلى هذا يتبين أن ما صدر من أصحابه من اللوم والإعتراض تجاه صلحه مع معاوية كان عن غفلة من هؤلاء بحقيقة الأمر، وعدم إحاطتهم بالمصالح الأصلية التي كان الإمام يرمي إلى تحقيقها ورعايتها، فان حرصهم على نصرة الإمام عليه السّلام وتألمهم مما كانوا يشاهدون من انصراف الحق إلى غير الصراط السوي، كان يدفعهم إلى الإعتراض عليه في حين عشت عيون بعض المسلمين عن رؤية الحق والتمييز بينه وبين الباطل فاتخذوا من الإمام موقف المعاند، والنظرة الدقيقة في النصوص توضح الأمر، وتثبت أن صلحه عليه السّلام كان تحقيقاً لمرضاة الله تعالى.
فقد روى الحاكم النيسابوري بأسناده عن عبد الرحمان بن جبير بن نفير يحدّث عن أبيه، قال: «قلت للحسن بن علي: ان الناس يقولون: انك تريد الخلافة فقال: قد كان جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت ويسالمون من سالمت، تركتها إبتغاء وجه الله تعالى وحقن دماء أمة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم ابتزها باتئاس أهل الحجاز»(15).
(1) تاريخ الخلفاء الراشدين ص151، ج1.
(2) المستدرك ج3 ص170، وانظر ص175، والبداية والنهاية ج8 ص18.
(3 ـ 4) ترجمة الإمام الحسن من تاريخ مدينة دمشق ص177 رقم 302 و203 رقم 399.
(5) فرائد السمطين ج2 ص124 باب 27.
(6) علل الشرايع ج1 ص211، الباب 159 الرقم 2.
(7) ذكر ما قاله سفيان بن أبي الليل الكوفي: البخاري في تاريخه ج4 رقم ـ 2064 والذهبي في الميزان ج2 ـ رقم 3328، وابن حجر في لسان الميزان ج3 رقم ـ 209.
(8) شرح نهج البلاغة ج4 ص16 طبعة مصر.
(9) معادن الحكمة ج2 ص25.
(10) المناقب ج4 ص35.
(11) المناقب ج4 ص35.
(12) تنزيه الأنبياء ص169.
(13) كشف المحجّة لثمرة المهجة ص46.
(14) الملاحم والفتن ص25، الباب 15.
(15) المستدرك على الصحيحين ج3 ص170.