3 ـ الخندق أو الأحزاب
قال ابن هشام: «كانت غزوة الخندق في شوّال سنة خمس… وكان من حديث الخندق ان نفراً من اليهود… في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرجوا حتى قدموا على قريش مكة فدعوهم الى حرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالوا: انّا سنكون معكم عليه حتى نستأصله… ثم خرج اولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخبروهم انهم سيكونون معهم عليه وان قريشاً قد تابعوهم على ذلك فاجتمعوا معهم فيه… فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان ابن حرب وخرجت غطفان، وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث ابن غطفان فيمن تابعه من قومه من اشجع»(1).
قال الطبري: «فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما اجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخندق سلمان، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يومئذ حر وقال: يا رسول الله، انّا كنا بفارس إذا حصرونا خندقنا علينا».
«ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة واقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليه والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام…»(2).
روى الحاكم النيسابوري بأسناده عن ابن اسحاق قال: «كان عمرو بن عبد ود فارس قريش، وكان قد قاتل يوم بدر حتى اثبتته الجراحة، ولم يشهد احداً فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده، فلما وقف هو وخيله قال له علي يا عمر وقد كنت تعاهد الله لقريش ان لا يدعوك رجل إلى خلتين الاّ قبلت منه احداهما، فقال عمرو: اجل، فقال له علي رضي الله عنه فاني ادعوك إلى الله عزّوجل والى رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والاسلام فقال: لا حاجة لي في ذلك، قال: فاني ادعوك إلى البراز قال: يا ابن اخي لم؟ فوالله ما أحب ان اقتلك فقال علي: لكني والله أحب ان اقتلك، فحمى عمرو فاقتحم عن فرسه فعقره ثم اقبل فجاء إلى علي وقال: من يبارز فقام علي وهو مقنع في الحديد فقال: أنا له يا نبي الله، فقال: انه عمرو بن عبد ود اجلس فنادي عمرو: الا رجل فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فمشى إليه علي رضي الله تعالى عنه وهو يقول:
لا تعجلن فقد اتاك *** مجيب صوتك غير عاجز
ذو نبهة وبصيرة *** والصدق منجا كل فائز
اني لأرجو ان اقيم *** عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء *** يبقى ذكرها عند الهزاهز
فقال له عمرو: من أنت؟ قال أنا علي قال ابن من؟ قال: ابن عبد مناف أنا علي بن أبي طالب فقال: عندك يا ابن أخي من اعمامك من هو اسنّ منك، فانصرف فاني اكره ان اهريق دمك، فقال علي لكني والله ما اكره ان اهريق دمك فغضب فنزل فسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم اقبل نحو علي مغضباً واستقبله علي بدرقته فضربه عمرو في الدرقة فقدّها، واثبت فيها السيف واصاب رأسه فشجه وضربه علي رضي الله عنه على حبل العاتق فسقط وثار العجاج فسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم التكبير فعرف ان علياً قتله، فثم يقول علي رضي الله تعالى عنه:
أعلي يقتحم الفوارس هكذا *** عني وعنهم اخروا اصحابي
اليوم يمنعني الفرار حفيظتي *** ومصمم في الرأس ليس بنابي
الاّ ابن عبد حين شد اليه *** وحلفت فاستمعوا من الكتاب
اني لا صدق من يهلل بالتقى *** رجلان يضطربان كل ضراب
فصدرت حين تركته متجدلا *** كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن اثوابه ولو انني *** كنت المقطر بزنّى اثوابي
عبد الحجارة من سفاهة عقله *** وعبدت ربّ محمّد بصواب
ثم اقبل علي رضي الله عنه نحو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجهه يتهلل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هلا استلبته درعه فليس للعرب درع خيراً منها؟ فقال ضربته فاتقاني بسوأته واستحييت ابن عمي ان استلبه، وخرجت خيله منهزمة حتى أقحمت من الخندق»(3).
وروى باسناده عن محمّد بن اسحاق بن يسار، قال: حدثني عاصم بن عمر ابن قتادة قال: لما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عمرو بن عبدود، انشأت اخته عمرة بنت عبد ود ترثيه فقالت:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله *** بكيته ما اقام الروح في جسدي
لكنّ قاتله من لا يعاب به *** وكان يدعى قديماً بيضة البلد
وسمعت أبا العبّاس محمّد بن يعقوب سمعت أحمد بن عبد الجبار العطاردي، سمعت يحيى بن آدم يقول ما شبهت قتل علي عمرواً الاّ بقول الله عزّوجلّ: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ)(4)».
روى الخوارزمي باسناده عن بهز بن حكم عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال: «لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبدود يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة»(5).
وروى باسناده عن علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الخندق: اللهم انك اخذت مني عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وهذا علي فلا تدعني فرداً وأنت خير الوارثين»(6).
روى ابن عساكر باسناده عن ابن عبّاس، قال: «سمعت عمر يقول: جاء عمرو بن عبد ود، فجعل يجول على فرسه حتى جاز الخندق وجعل يقول هل من مبارز؟ وسكت اصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هل يبارزه احد؟ فقام علي فقال: أنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اجلس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الثانية هل يبارزه أحد؟ فقام علي فقال: دعني يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنما أنا بين حسنتين إما أن أقتله فيدخل النار وإما أن يقتلني فأدخل الجنة!!! فقال رسول الله: اخرج يا علي فخرج علي فقال عمرو: من أنت يا ابن أخي؟ فقال: أنا علي، فقال عمرو، إن أباك كان نديماً لأبي، لا أحب قتالك، فقال علي: إنك أقسمت لا يسألك أحد ثلاثاً إلا أعطيته فاقبل مني واحدة فقال عمرو: وما ذلك؟ قال علي: أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّداً رسول الله، قال عمرو: ليس إلى ذلك سبيل، قال فترجع فلا تكون علينا ولا معنا ثلاثاً، قال: اني نذرت ان اقتل حمزة فسبقني إليه وحشي، ثم إني نذرت أن أقتل محمّداً قال علي رضي الله عنه: فأنزل: فنزل فاختلفا في الضربة فضربه علي فقتله»(7).
قال: «ثم أقبل علي نحو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجهه يتهلل، فقال عمر بن الخطاب: هلا سلبته درعه فإنه ليس للعرب درع خير منها؟ فقال: ضربته فاتقاني بسوأته فاستحييت ابن عمي أن أسلبه وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت الخندق»(8).
وروى ابن شهر آشوب عن ابن مسعود والصادق عليه السّلام في قوله تعالى: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ)(9) بعلي بن أبي طالب وقتله عمرو بن عبد ود.
وقد رواه أبو نعيم الأصفهاني في ما نزل من القرآن في أميرالمؤمنين بالاسناد عن سفيان الثوري عن رجل عن مرة عن عبدالله.
وقال جماعة من المفسرين في قوله تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ)(10) انها نزلت في علي يوم الأحزاب»(11).
وروى الشيخ المفيد باسناده عن ربيعة السعدي قال: «أتيت حذيفة بن ذاليمان فقلت له: يا أبا عبدالله إنا لنتحدّث عن علي عليه السّلام ومناقبه فيقول لنا أهل البصرة إنكم تفرطون في علي عليه السّلام، فهل أنت محدثيّ بحديث فيه، فقال حذيفة: يا ربيعة وما تسألني عن علي عليه السّلام فو الذي نفسي بيده لو وضع جميع أعمال اصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في كفة الميزان منذ بعث الله محمّداً إلى يوم الناس هذا ووضع عمل علي عليه السّلام في الكفة الأخرى لرجح عمل علي عليه السّلام على جميع أعمالهم، فقال ربيعة: هذا الذي لا يقام له ولا يقعد فقال حذيفة: يا لكع، وكيف لا تحمل وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله يوم عمرو بن عبد ود وقد دعا إلى المبارزة فأحجم الناس كلّهم ما خلا علياً فإنه برز اليه وقتله الله على يده؟ والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجراً من عمل أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى يوم القيامة»(12).
وروى القندوزي باسناده عن ابن مسعود قال: «لما برز علي إلى عمرو ابن عبد ود، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: برز الايمان كلّه إلى الشرك كلّه، فلما قتله، قال له: أبشر يا علي، فلو وزن عملك اليوم بعمل أمتي لرجح عملك بعملهم»(13).
ثم روى عن زياد بن مطرب قال: «كان ابن مسعود يقرأ (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ)بعلي.
وسبب نزوله: ان عمرو بن عبد ود كان فارساً مشهوراً…».
(1) السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص225ـ226.
(2) تاريخ الطبري ج2 ص566.
(3) المستدرك على الصحيحين ج3 ص32ـ33.
(4) سورة البقرة: 251.
(5) المناقب الفصل التاسع ص58، ورواه الحمويني في فرائد السمطين ج1 ص256 والخوارزمي في مقتل الحسين ج1 ص45، ورواه محمّد صدر العالم في معارج العلى في مناقب المرتضى ص95. والبدخشي في مفتاح النجاء ص44.
(6) المناقب الفصل الرابع عشر ص87.
(7) تاريخ مدينة دمشق ص150 ج1 رقم 216، وانظر الكامل لابن الأثير ج2 ص181 وغيره.
(8) المصدر ص154 رقم 217.
(9) سورة الأحزاب: 25.
(10) سورة الاحزاب: 9.
(11) المناقب ج3 ص134.
(12) الارشاد ص47.
(13) ينابيع المودة ص94 و95، قال السيد حسن الحائري القزويني: «قول النبي لمبارزة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين حسبما رواه الخطيب الخوارزمي في المناقب ص64، وبرهان الدين الحلبي في السيرة الحلبية ج2 ص340، وأخرج الحاكم في المستدرك ج4 ص32، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لمبارزة علي يوم الخندق أفضل من اعمال امّتي الى يوم القيامة، وأخرج الحديث بألفاظه علي المتقي في كنز العمال ج6 ص156، وفي مدارج النبوة للشيخ عبد الحق الدهلوي أنه ورد في الأخبار لمبارزة علي يوم الخندق أفضل من اعمال امتي إلى يوم القيامة، وذكر الشيخ سليمان القندوزي في الباب الثالث والعشرين قائلا في المناقب عن ابن مسعود، قال: لما برز علي إلى عمرو بن عبدود، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: برز الأيمان كله إلى الشرك كلّه فلمّا قتله قال له: أبشر يا علي، فلو وزن عملك اليوم يعمل أمّتي لرجح عملك بعملهم، وفي المناقب لاخطب خوارزم ص103 عن ابن عبّاس قال: لما قتل علي عليه السّلام عمرواً دخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسيفه يقطر دماً فلما رآه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كبر ثلاثاً وكان وقت فراغه من صلاه الظهر فكبر المسلمون، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم اللهم اعط علياً فضيلة لم تعطها أحداً قبله ولا تعطها أحداً بعده رواه الديلمي في الفردوس، وفي تفسير الفخر الرازي في تفسيره سورة القدر ج8 ص445 ان قوله تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر) فيه بشارة عظيمة فهي انّه تعالى ذكر ان هذه اللية خير ولم يبين قدر الخيريّة. وهذا كقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لمبارزة علي عليه السّلام مع عمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمّتي إلى يوم القيامة فلم يقل مثل عمله بل قال: أفضل كانّه يقول: حسبك هذا من الوزن».
قال ابن أبي الحديد في الشرح ج3 ص270 في الجواب عن الجاحظ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين بزر علي عليه السّلام لعمرو: برز الايمان كلّه إلى الشرك كله، ومن حديث الدميري في حياة الحيوان ج1 ص249 طبع مصر، انه قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، برز الايمان كله إلى الكفر كله، انتهى.
قال فضل بن روزبهان مجيباً عن الحديث، انّ الحديث صحيح لا ينكره الاّ سقيم الرأي ضعيف الايمان ولكن الكلام في اثبات النص وهذا لا يثبت، انتهى. أقول: ان العقل السليم والفطرة المستقيمة ناهض باثبات امامة الافضل كما أنه ناهض باثبات التوحيد ووجوب بعث الرسل، فالكلّ من نهج واحد، فإذا حكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وشهد لعلي عليه السّلام انه كلّ الايمان كان ذلك لا محالة لزيادة الفضل والكرامة». الامامة الكبرى والخلافة العظمى ج2 ص271 مخطوط ص277.