نماذج من احتدام القتال:
روى محب الدين الطبري بسنده عن صعصعة بن صوحان قال: «خرج يوم صفّين رجل من اصحاب معاوية يقال له كريز بن الصباح الحميري فوقف بين الصفين وقال: من يبارز؟ فخرج اليه رجل من اصحاب علي فقتله فوقف عليه ثم قال: من يبارز؟ فخرج اليه آخر فقتله والقاه على الأول، ثم قال: من يبارز؟ فخرج اليه الثالث فقتله والقاه على الأخرين، وقال: من يبارز؟ فاحجم الناس عنه، واجب من كان في الصف الأوّل أن يكون في الآخر، فخرج عليه السّلام على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم البيضاء، فشق الصفوف، فلما ـ انفصل منها نزل عن البلغة وسعى اليه فقتله، وقال: من يبارز؟ فخرج اليه رجل فقتله ووضعه على الأول، ثم قال: من يبارز؟ فخرج اليه رجل فقتله ووضعه إلى الآخرين، ثم قال: من يبارز؟ فخرج اليه رجل فقتله ووضعه على الثلاثة، ثم قال: يا ايّها الناس ان الله عزّوجل يقول: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)(1) ولو لم تبدأوا بهذا لما بدأنا ثم رجع إلى مكانه»(2).
روى محب الدين الطبري بسنده عن ابن عبّاس رضي الله عنه وقد سأله رجل أكان علي يباشر القتال يوم صفين؟ فقال: والله ما رأيت رجلا أخرج لنفسه في متلف من علي، ولقد كنت أراه يخرج حاسر الرأس، بيده السيف إلى الرجل الدارع فيقتله»(3).
قال نصر: «ولم يزل عمّار بهاشم ينخسه حتى اشتد القتال، وزحف هاشم بالراية يرقل بها إرقالا، وكان يسمى المرقال، قال: وزحف الناس بعضهم إلى بعض والتقى الزحفان فاقتتل الناس قتالا شديداً لم يسمع الناس بمثله، وكثرت القتلى في الفريقين كليهما»(4).
قال نصر: «ثم تمادى الناس في القتال فاضطربوا بالسيوف حتى تعطفت وصارت كالمناجل، وتطاعنوا بالرماح حتى تكسرت وتناثرت اسنتها، ثم جثوا على الركبات فتحاثوا بالتراب، يحثو بعضهم في وجوه بعض التراب، ثم تعانقوا وتكادموا بالافواه وتراموا بالصخر والحجارة»(5).
وقال نصر: «واقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب، ما كانت صلاة القوم الا التكبير عند مواقيت الصلاة، ثم ان ميسرة العراق كشفت ميمنة أهل الشام فطاروا في سواد الليل واعاد عبيد الله والتقى هو وكرب ـ رجل من عكل ـ فقتله وقتل الذين معه جميعاً، وانما انكشف الناس لوقعة كرب فكشف أهل الشام أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل وتبدلت الرايات بعضها ببعض، فلما اصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله الا الف رجل فاقتلعوه وركزوه من وراء موضعه الأول وأحاطوا به، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزاً وليس حوله إلا ربيعة، وعليّ عليه السّلام بينها وهم يحيطون به، وهو لا يعلم من هم ويظنهم غيرهم، فلما أذّن مؤذّن عليّ حين طلع الفجر قال علي:
يا مرحباً بالقائلين عدلا *** وبالصلاة مرحباً وأهلا
فلمّا صليى علي الفجر أبصر وجوهاً ليست بوجوه أصحابه بالأمس، وإذا مكانه الذي هو به ما بين الميسرة والقلب بالأمس، فقال: من القوم؟ فقالوا: ربيعة، وقد بتَّ فيهم تلك الليلة، قال: فخر طويلٌ لك يا ربيعة، ثم قال لهاشم: خذ اللواء، فوالله ما رأيت مثل هذه الليلة، ثم خرج نحو القلب حتى ركز اللواء به»(6).
قال نصر: «ثم كانت بين الفريقين الواقعة المعروفة بـ «وقعة الخميس» وحدّثنا بها عمر بن سعد، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم الهجري، قال: حدّثنا القعقاع بن الابرد الطهوي قال: والله اني لواقف قريباً من علي بصفين يوم وقعة الخميس وقد التقت مذحج وكانوا في ميمنة علي وعك وجذام ولخم والأشعريّون، وكانوا مستبصرين في قتال علي، ولقد والله رأيت ذلك اليوم من قتالهم، وسمعت من وقع السيوف على الرؤوس، وخبط الخيول بحوافرها في الأرض الأرض وفي القتلى ما الجبال تهد ولا الصواعق تصعق بأعظم هولا في الصدور من ذلك الصوت، نظرت إلى علي وهو قائم فدنوت منه، فسمعته يقول: «لا حول ولا قوة الا بالله، والمستعان الله» ثم نهض حين قام قائم الظهيرة وهو يقول: «ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين» وحمل على الناس بنفسه، وسيفه مجرد بيده، فلا والله ما حجز بيننا الا الله رب العالمين، في قريب من ثلث الليل، وقتلت يومئذ أعلام العرب، وكان في رأس علي ثلاث ضربات، وفي وجهه ضربتان.
وقال نصر: وقد قيل ان علياً لم يجرح قط. وقتل في هذا اليوم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وقتل من أهل الشام عبدالله بن ذي الكلاع الحميري»(7).
(1) سورة البقرة: 194.
(2) الرياض النضرة ج3 ص260.
(3) المصدر.
(4) وقعة صفّين ص238ـ304.
(5) وقعة صفين ص238ـ304.
(6) نفس المصدر السابق ص330.
(7) وقعة صفين ص362و323 و324.