موقف عائشة وكبار الصّحابة من عثمان
قال اليعقوبي: «وكان بين عثمان وعائشة منافرة، وذلك أنه نقصها مما كان يعطيها عمر بن الخطاب وصيّرها أسوة غيرها من نساء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(1) فإن عثمان قام يوماً ليخطب إذ أدلت عائشة قميص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونادت يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يبل، وقد أبلى عثمان سنته، فقال عثمان «ربّ اصرف عنّي كيدهن ان كيدهن عظيم»… وكان أكثر من يؤلب عليه طلحة والزبير وعائشة»(2) وكانت تقول: «اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا»(3).
قال ابن الأثير: «ومنه حديث عائشة: اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا، تعني عثمان وهذا كان منها لما غاضبته وذهبت إلى مكة(4) وقال الدميري: «كان اعداء عثمان يسمونه نعثلاً(5)تشبيهاً برجل من مصر كان طويل اللحية اسمه نعثل، وقيل: النعثل الشيخ الأحمق»(6).
وقال الزبيدي: «ونعثل يهودي كان بالمدينة قيل: به شبه عثمان إذا نيل منه(7) ولما حصر عثمان في داره واشتد الأمر عليه «امر مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فأتيا عائشة وهي تريد الحج، فقالا لها: لو اقمت فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل.
فقالت: قد قرنت ركابي وأوجبت الحج على نفسي ووالله لا افعل، فنهض مروان وصاحبه ومروان يقول:
وحرّق قيس عليَّ البلا *** د حتى إذا اضطرمت أجذما
فقالت عائشة: يا مروان، وددت والله انّه في غرارة(8) من غرائري هذه واني طوقت حمله حتى القيه في البحر»(9).
قال اليعقوبي: «قال مروان: فيدفع اليك بكل درهم أنفقته درهمين قالت: لعلك ترى اني في شك من صاحبك، أما والله لوددت انه مقطع في غرارة من غرائري واني اطيق حمله فاطرحه في البحر»(10).
ومر عبد الله بن عبّاس بعائشة وقد ولاه عثمان الموسم، وهي بمنزل من منازل طريقها فقالت: يا ابن عبّاس، ان الله قد آتاك عقلا وفهماً وبياناً فإياك أن ترد الناس عن هذا الطاغية(11).
قال ابن حجر: «ولي عثمان اثنتي عشرة سنة فلم ينقم عليه النّاس مدة ست سنين، بل كان أحب إلى قريش من عمر، لأن عمر كان شديداً عليهم فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم ثمّ توانى في أمرهم، واستعمل اقاربه وأهل بيته في الست الأواخر، واعطاهم المال متأولا في ذلك الصلة التي أمر الله بها وقال: ان أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما كان لهما وإني أخذته فقسمته في أقربائي، فانكر عليه ذلك»(12).
وقال: «كره ولايته نفر من الصحابة لأنه كان يحب قومه، فكان كثيراً ما يوّلي بني أمية من لم يكن صحبة فكان يجيء من امرائه ما تنكره الصحابة، وكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم، فلما كان في الست الأواخر استأثر بني عمه فولاّهم دون غيرهم وأمرهم بتقوى الله، فولى عبدالله بن أبي سرح مصر فمكث عليها سنين، فجاء اهل مصر يشكونه ويتظلمون منه، وقد كان قبل ذلك من عثمان هناة إلى عبدالله بن مسعود، وأبي ذرّ، وعمّار بن ياسر، فكانت بنو هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان لحال عمار بن ياسر، وجاء أهل مصر يشكون من ابن ابي سرح، فكتب اليه كتاباً يتهدده فيه فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان فقتله، فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل فنزلوا المسجد وشكوا إلى الصحابة في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح بهم، فقام طلحة بن عبيدالله فكلم عثمان بكلام شديد، وأرسلت عائشة اليه تقول له تقدم إليك أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت فهذا قد قتل منهم رجلا فانصفهم من عاملك، ودخل عليه علي بن أبي طالب، فقال: انما يسألونك رجلا مكان رجل وقد ادعوا قبله دماً فاعزله عنهم واقض بينهم، فان وجب عليه حق فانصفهم منه فقال لهم: اختاروا رجلاً أوليه عليكم مكانه، فأشار الناس عليه بمحمّد بن أبي بكر فكتب عهده وولاه، وخرج معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وبين ابن أبي سرح، فخرج محمّد ومن معه، فلمّا كان على مسيرة ثلاث من المدينة اذ هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطاً كأنّه رجل يطلب أو يطلب، فقال أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما قضيّتك وما شأنك كأنك هارب أو طالب؟ فقال لهم: أنا غلام أميرالمؤمنين وجّهني إلى عامل مصر، فقال له رجل منهم: هذا عامل مصر، قال: ليس هذا أريد وأخبر بأمره محمّد بن أبي بكر، فبعث في طلبه رجلا فأخذه وجاء به إليه، فقال له رجل: غلام من أنت؟ فأقبل مرة يقول: أنا غلام أميرالمؤمنين، ومرة يقول: أنا غلام مروان، حتى عرفه رجل أنه لعثمان، فقال له محمّد: إلى من ارسلت؟ قال: إلى عامل مصر، قال له: بماذا؟ قال: برسالة، قال: معك كتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه كتاباً وكانت معه اداوة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح، فجمع محمّد من كان عنده من المهاجرين والأنصار وغيرهم ثم فك الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه: إذا أتاك محمّد وفلان وفلان فاحتل في قتلهم وأبطل كتابه وقِر على عملك حتى يأتيك رأيي، واحبس من يجىء يتظلم إليّ منك حتى يأتيك رأيي في ذلك ان شاء الله تعالى.
فلمّا قرأوا الكتاب فزعوا ورجعوا إلى المدينة وختم محمّد الكتاب بخواتيم نفر كانوا معه، ودفعوا الكتاب إلى رجل منهم وقدموا المدينة، فجمعوا طلحة والزبير وعلياً وسعداً ومن كان من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم فضّوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام وأقرؤوهم الكتاب، فلم يبق أحد من أهل المدينة الاَّ حنق على عثمان، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وأبي ذر وعمار حنقاً وغيظاً، وقام أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فلحقوا بمنازلهم ما منهم أحد الاَّ وهو مغتّم لما قرؤوا الكتاب، وحاصر الناس عثمان واجلب عليه محمّد بن أبي بكر بني تيم وغيرهم، فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمّار ونفر من الصحابة كلهم بدري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير.
فقال له: أهذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، قال: والبعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علم لي به.
قال له علي: فالخاتم خاتمك، قال: نعم، قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتاب عليه خاتمك لا تعلم به، فحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا امرت به ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر قط، فعرفوا انّه خط مروان، وشكوا في أمر عثمان، وسألوه أن يدفع اليهم مروان فأبى، وكان مروان عنده في الدار، فخرج أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من عنده غضاباً وشكوا في أمره وعلموا أن عثمان لا يحلف بباطل إلا أن قوماً قالوا: لا يبرأ عثمان من قلوبنا الاّ ان يدفع الينا مروان حتى نبحثه ونعرف حال الكتاب، وكيف يأمر بقتل رجلين من اصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم بغير حق، فان يكن عثمان كتبه عزلناه، وإن يكن مروان كتبه على لسان عثمان، نظرنا ما يكون منا في أمر مروان، ولزموا بيوتهم، وأبى عثمان أن يخرج اليهم مروان وخشي عليه القتل، وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء، فأشرف على الناس فقال: أفيكم علي؟ فقالوا: لا، قال: أفيكم سعد؟ قالوا: لا، ثم قال: ألا أحد يبلغ علياً فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك علياً فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة، فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني امية حتى وصل الماء إليه فبلغ علياً أن عثمان يراد قتله، فقال: انما أردنا منه مروان فأما قتل عثمان فلا، وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا احداً يصل إليه، وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من اصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ابناءهم يمنعون الناس ان يدخلوا على عثمان ويسألونه اخراج مروان، فلما رأى ذلك محمّد بن أبي بكر ان يغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيرونها فتنة فأخذ بيد الرجلين، فقال لهما: إن جاءت بنو هاشم فرأوا الدم على وجه الحسن كشفوا الناس عن عثمان وبطل ما تريدون، ولكن مروا بنا حتى نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم احد، فتسور محمّد وصاحباه من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان ولا يعلم احد من كان معه لأن كل من كان معه كانوا فوق البيوت ولم يكن معه الاّ امرأته، فقال لهما محمّد: مكانكما فان معه إمرأته حتى أبدأ كما بالدخول، فإذا أنا ضبطته فادخلا فتوجاه حتى تقتلاه، فدخل محمّد فأخذ بلحيته فقال له عثمان: والله لو رآك ابوك لساءه مكانك مني فتراخت يده، ودخل الرجلان عليه فتوجاه حتى قتلاه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها احد لما كان في الدار من الجلبة، وصعدت امرأته الى الناس وقالت: ان أميرالمؤمنين قد قتل، فدخل الناس فوجدوه مذبوحاً، فبلغ الخبر علياً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا فاسترجعوا، فقال علي لابنيه: كيف قتل أميرالمؤمنين وأنتما على الباب، ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين، وشتم محمّد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وخرج وهو غضبان حتى أتى منزله»(13).
وقال ابن كثير: «كانت مدّة حصار عثمان في داره أربعين يوماً على المشهور.. ثم كان قتله في يوم الجمعة بلا خلاف… لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على الصحيح المشهور.. فكانت خلافته اثنتي عشر سنة الاّ عشر يوماً. فأما عمره فإنه جاوز اثنتين وثمانين سنة… ودفن بحش كوكب شرقي البقيع»(14).
(1) قال البلاذري: «كتب لعائشة في اثني عشر الفاً وكتب لسائر ازواج النبي عشرة آلاف» (فتوح البلدان ص 435).
(2) تاريخ اليعقوبي ج2 ص165.
(3) ابن أبي الحديد ج2 ص77.
(4) النّهاية ج5 ص80، وتاج العروس ج8 ص141.
(5) حياة الحيوان ج2 ص359.
(6) النهاية لابن الأثير ج5 ص80.
(7) تاج العروس ج8 ص141.
(8) الجوالق.
(9) انساب الاشراف ج5 ص 75.
(10) تاريخ اليعقوبي ج2 ص165.
(11) انساب الاشراف ج5 ص75.
(12) الصواعق المحرقة ص69.
(13) الصّواعق المحرقة ص69ـ71.
(14) البداية والنّهاية ج7 ص190.