كلام المأمون في آية الغار
ولقد استدلّ علماء السنّة على فضل أبي بكر بن أبي قحافة بمصاحبته النّبي في الهجرة، ففي الاحتجاج الّذي جرى بين المأمون العباسّي والفقهاء في عصره:
قال اسحاق بن إبراهيم: وإنّ لأبي بكر فضلا. قال المأمون: اجل لولا أن له فضلا لما قيل: انّ عليّاً افضل منه، فما فضله الّذي قصدت إليه السّاعة؟ قلت: قول الله عزّوجلّ: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)(1) فنسبه إلى صحبته قال: يا اسحاق، أما أني لا احملك على الوعر من طريقك، انّي وجدت الله تعالى نسب إلى صحبة من رضيه ورضي عنه كافراً وهو قوله: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً)(2) قلت: انّ ذلك صاحب كان كافراً، وأبو بكر مؤمن، قال: فإذا جاز أن ينسب إلى صحبة من رضيه كافراً جاز أن ينسب إلى صحبة نبيّه مؤمناً، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثّالث، قلت: يا أميرالمؤمنين ان قدر الآية عظيم انّ الله يقول: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا). قال: يا اسحاق تأبى الآن الا أن اخرجك إلى الاستقصاء عليك.
اخبرني عن حزن أبي بكر، أكان رضىً أم سخطاً؟ قلت: انّ أبا بكر انّما حزن من أجل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خوفاً عليه وغمّاً ان يصل إلى رسول الله شيء من المكروه، قال: ليس هذا جوابي، انّما كان جوابي أن تقول: رضى ام سخط؟ قلت: بل رضى لله، قال: فكأن الله جلّ ذكره بعث الينا رسولا ينهى عن رضى الله عزّوجلّ وعن طاعته! قلت: أعوذ بالله، قال: أو ليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضىً لله؟ قلت: بلى. قال: أو لم تجد أنّ القرآن يشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: (لاَ تَحْزَن) نهياً له عن الحزن. قلت: أعوذُ بالله، قال: يا اسحاق، انّ مذهبي الرّفقُ بك لعلّ الله يردّك الى الحقّ ويعدل بك عن الباطل، لكثرة ما تستعيذ به، وحدّثني عن قول الله: (فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ)(3) من عنى بذلك: رسول الله أم أبا بكر؟ قلت: بل رسول الله. قال: صدقت. قال: فحدّثني عن قول الله عزّوجلّ: (وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)(4) إلى قوله: (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(5) أتعلم من المؤمنون الّذين اراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: النّاس جميعاً انهزموا يوم حنين، فلم يبق مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الاّ سبعة نفر من بني هاشم: علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والعبّاس آخذ بلجام بغلة رسول الله، والخمسة محدقون به خوفاً من أن يناله من جراح القوم شيء، حتّى أعطى الله لرسوله الظّفر، فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصّة، ثمّ من حضره من بني هاشم، قال: فمن افضل، من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك الوقت أم من انهزم عنه ولم يره الله موضعاً لينزلها عليه؟ قلت: بل من انزلت عليه السكينة؟ قال: يا اسحاق، من أفضل، من كان معه في الغار أم من نام على فراشه ووقاه بنفسه حتّى تمّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما أراد من الهجرة؟ انّ الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر عليّاً بالنّوم على فراشه وأن يقي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بنفسه، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك فبكى علي رضي الله عنه فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما يبكيك يا علي، أجزعاً من الموت؟ قال: لا، والّذي بعثك بالّحق يا رسول الله، ولكن خوفاً عليك، أفتسلم يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: سمعاً وطاعة وطيّبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله، ثمّ أتى مضجعه واضطجع وتسجّى بثوبه، وجاء المشركون من قريش فحفّوا به، لا يشكون انّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أجمعوا أن يضربه من كلّ بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسّيف، لئلاّ يطلب الهاشمّيون من البطون بطناً بدمه، وعليّ يسمع ما القوم فيه من تلف نفسه ولم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع صاحبه في الغار، ولم يزل علي صابراً محتسباً، فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتّى اصبح، فلمّا اصبح قام، فنظر القوم اليه فقالوا: أين محمّد؟ قال: وما علمي بمحمّد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلاّ كنت مغرّراً بنفسك منذ ليلتنا، فلم يزل على أفضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص حتّى قبضه الله إليه»(6).
(1) سورة التوبة : 40 .
(2) سورة الكهف: 37 و38.
(3) سورة التوبة: 40.
(4) سورة التوبة: 25.
(5) سورة التوبة: 26.
(6) العقد الفريد ج5 ص97، طبعة القاهرة سنة 1385.