علي يشبه يحيى
روى المتقي عن أنس في حديث: «من أحب أن ينظر الى يحيى بن زكريا في جهادته فلينظر الى علي في طهارته»(1).
قال العاصمي: «وقعت المشابهة بين المرتضى رضوان الله عليه وبين يحيى صلوات الله عليه بثمانية أشياء: اولها: بالحفظ والعصمة، والثّاني: بالكتاب والحكمة، والثالث: بالتسليم والتحية، والرابع: ببر الوالدين والحرمة، والخامس: بالقتل والشهادة لأجل امرأة مفسدة، والسادس: بشدة الغضب والنقمة من الله على قتلته، والسابغ: بالخوف والمراقبة، والثامن: بفقد السّمي والنظير له في التسمية.
1 ـ اما الحفظ والعصمة: فان المولود إذا خرج من بطن امه اتاه الشيطان فلكزه لكزة يبكي لها ويصبح عليه، خلا يحيى وعيسى ومحمّد صلوات الله عليهم كما هو المذكور في قصصهم، ثم لما بلغ يحيى عليه السّلام مبلغ الرجال عصمه الله تعالى فلم يعصه طرفة عين… قوله: (وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً)(2) وقوله تعالى عزّوجلّ: (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ)(3) ويظن العوام من الناس ان الحصور هو الذي لا يقدر على اتيان النساء، وان كان اصل اللغة كذلك في أحد الوجوه فيه، فان معناه هو انه عليه السّلام من شدة اجتهاده وقهره هواه كأنه كان عاجزاً ولم يكن في الأصل عاجزاً، وذلك لأن هذا العجز ليس مما يمدح به الانس بل هو من المطاعن التي يطعن بها في الرجال، وانما المدح في الانتهاء والاجتناب عن ملائم الافعال، والذي يؤيده قول المرتضى رضوان الله عليه «خيركم من يشتهي وينتهي» ألاترى الله سبحانه كيف يمدح من آتى المال وهو يشتهيه فقال: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى)(4) اي لم يعط المال عن حبه مسكيناً ويتيماً واسيراً لاستغناء بل انما أعطاه وهو محتاج اليه ونظيره قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)(5) ولذلك مدح الله تعالى الذين يؤثرون على انفسهم، فقال: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(6) كل ذلك تأييد لما ذكرناه من معنى الحصور وحكمه.
فكذا المرتضى رضوان الله عليه حفظه الله تعالى عن همز الشياطين في وقت ولادته مذكور ذلك في قصته، ثم عصمه عن عبادة الاوثان وهداه إلى تلاوة القرآن، وذلك لأنه اسلم وهو غير بالغ.
2 ـ واما الكتاب والحكمة: فقوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة) فأوتي علم التوراة وهو صبي صغير في حجر ابويه، كذلك المرتضى رضوان الله عليه أوتي علم القرآن وهو صبي صغير… واما الحكمة، فقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)(7) يعني الحكمة… ومن حكمها التي أوتيها أن قيل له وهو صبي صغير: هلم نلعب، فقال: ما للعب خلقنا، وكان يحيى من اعبد الناس وكان ابوه زكريا عليهما السّلام إذا جلس للناس يتفقده فإذا لم يره يتكلم في صفة النار وشدة عذابها.
وكذلك المرتضى رضوان الله عليه أوتي من الحكمة ما لم يؤتها أحد مثله.
وروى عمرو بن بحر الجاحظ قال: تكلم اميرالمؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بتسع كلمات ارتجالا لم يسبق اليها ولم يلحق فيها، ثلاث في المناجاة وثلاث في الحكمة وثلاث في الأدب.
اما التي في المناجاة فقوله: آلهي كفى بي عزاً ان اكون لك عبداً، وكفى لي فخراً أن تكون لي ربّاً، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب.
واما التي في الحكمة فقوله: قيمة كل امرىء ما يحسنه، وبقية عمر الرجل لا قيمة لها، ولن يهلك امرء عرف قدره.
واما التي في الأدب فقوله: استغن عمن شئت فأنت نظيره، وتفضل على من شئت فأنت اميره، واحتج إلى من شئت فأنت أسيره…
3 ـ واما السلام والتحية: فقوله تعالى (وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً)(8) قيل: سلامته من لكزة الشيطان يوم ولادته، ومن وسوسته يوم خروجه من الدنيا…
فكذلك المرتضى رضوان الله عليه اكرمه الله تعالى بالسلام عليه قوله: (سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ)(9) يعني آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا شك في انه من آله عليه السّلام، ثم قد كانت فيه اشارة إلى انّه رضي الله عنه يقتل شهيداً كما كانت في قوله: (وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ) اشارة إلى قتل يحيى شهيداً.
4 ـ واما البر بالوالدين والحرمة لهم: فقوله تعالى: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً)(10) فلم يخالف ابويه… فكذلك المرتضى رضوان الله عليه لم يكن يخالف ابويه في شيء يرجع ذلك اليه…
5 ـ واما القتل والشهادة لأجل امرأة مفسدة… كانت للملك ابنة اخ وكان الملك يعجبه حسنها وجمالها، وكان يسأل يحيى عليه السّلام عن التزويج بها فكان ينهى عن ذلك ويشق على الملك أمرها، فذكر ان الملك شرب الخمر ذات يوم فلما غلب الشراب على عقله وكانت هذه المرأة تسقيه وهي متزينة متعطرة متلبّسة بلباس الفتنة فتعلق بها الملك، فقالت المرأة: أنا لا اطيعك دون أن تأتني برأس يحيى ابن زكريا عليهما السّلام، فانه ينهانا عن الاجتماع، فغلب الشقاء على ذلك الملعون فأمر برأس يحيى فأتي به إليه…
فكذلك المرتضى رضوان الله عليه، جعل الله سبحانه تعالى آخر امره الشهادة واول أمره العصمة وسبب قتله المرأة المفسدة قطامة الخارجية…
6 ـ واما شدة الغضب والنقمة من الله تعالى على قتلته وانتقامه منهم: فروي عن ابن عبّاس ان الله تعالى لما خسف بالملك وأهل بيته حين قتل يحيى عليه السّلام ورأت بنو اسرائيل ان إله زكريا عليه السّلام غضب له قالوا يقتل زكريا عليه السّلام ايضاً، فلما بلغ ذلك زكريا عليه السّلام هرب منهم وهم في طلبه، فنادته شجرة إليّ إليّ يا زكريا، فانشقت الشجرة بنصفين ودخلها زكريا عليه السّلام والتأمت عليه، فأخذ ابليس هدباً من اهداب ثوبه ثم تصدى لهم وقال: انه دخل هذه الشجرة بسحره وهذا طرف ردائه ثم قالوا ان أخذنا من رأس الشجرة هرب من اسفلها، وان اخذناه من اسفلها هرب من أعلاها، فدلهم ابليس على المنشار فشقوا الشجرة بنصفين وشقوا زكريا عليه السّلام معهما، فما زال دم زكريا ويحيى عليهما السلام يفوران من تلك الشجرة ويغليان حتى سلط الله تعالى عليهم بخت النّصر، فقتل منهم على ذلك الموضع سبعين ألفاً ثم سكن الدم، وعاش يحيى إلى ان رفعه الله تعالى اليه أربعين سنة ومنهم من قال ثلاثاً وثلاثين سنة.
فكذلك المرتضى رضوان الله عليه لما خذله أهل الكوفة ولم يقوموا بحقه حق القيام دعا عليهم في ذلك المقام، فاستجاب الله تعالى دعائه فيهم وسلط الحجاج بن يوسف عليهم حتى قتل منهم ثمانين الفاً صبراً، انتقاماً من الله تعالى عنهم.
7 ـ واما الخوف والمراقبة: فقد روي عن وهب بن منبه قال: فقد زكريا ابنه يحيى عليهما السّلام فوجده بعد ثلاث مضطجعاً على قبر يبكي فقال: يا بني ما هذا؟ قال: أخبرتني ان جبرئيل اخبرك ان بين الجنة والنار مفازة من نار لا يطفى حرّها الاّ الدمع…
فكذلك المرتضى رضوان الله عليه من خوفه ومراقبته ما ذكر انه كان إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون، فقيل له: مالك يا أميرالمؤمنين؟ فيقول: جاء وقت امانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان، فلا أدري أأحسن اداء ما حملت ام لا؟ وكذلك وصفهم الله بالخوف فقال: (وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً)(11) وقال تعالى: (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً)(12)…
8 ـ واما فقد السّمي والنظير له في التسمية: فقوله تعالى: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَم اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً)(13)… وكذلك المرتضى رضوان الله عليه لم يكن قبله من أهل بيته ولا من العرب من سمّي عليّاً…
قال البياضي: يحيى (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)(14) وعليّ اوتي الحكم والوزارة صبياً»(15).
(1) كنز العمّال ج11 ص634 طبع حلب، ورواه البدخشي في مفتاح النجاء ص76.
(2) سورة مريم: 15.
(3) سورة آل عمران: 39.
(4) سورة البقرة: 177.
(5) سورة الدّهر: 8.
(6) سورة الحشر: 9.
(7) سورة مريم: 12.
(8) سورة مريم: 15.
(9) سورة الصّافات: 130.
(10) سورة مريم: 14.
(11) سورة الدّهر: 7، 10.
(12) سورة مريم: 7.
(13) سورة مريم: 7.
(14) سورة مريم: 12.
(15) الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم ج1 ص102.