علي يشبه نوحاً
روى الخوارزمي بإسناده عن الحرث الاعور صاحب راية علي بن أبي طالب عليه السّلام، قال: «بلغنا انّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان في جمع من اصحابه فقال: «أريكم آدم في علمه ونوحاً في فهمه وإبراهيم في حكمته فلم يكن بأسرع من أن طلع علي عليه السّلام فقال أبو بكر: يا رسول الله، أقسمت رجلا بثلاثة من الرّسل بخِّ بخِّ لهذا الرّجل، من هو يا رسول الله؟ قال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أولا تعرفه يا أبا بكر؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: هو أبو الحسن علي بن أبي طالب فقال أبو بكر: بخِّ بخِّ لك يا أبا الحسن وأين مثلك يا أبا الحسن»(1).
قال العاصمي: وقعت المشابهة بين المرتضى وبين نوح صلوات الله عليه بثمانية أشياء: أوّلها بالفهم، والثّاني بالدعوة، والثّالث بالاجابة، والرّابع بالسفينة، والخامس بالبركة، والسّادس بالسّلام، والسّابع بالشّكر، والثّامن بالاهلاك.
امّا الفهم: بقول النبي عليه السّلام: من أراد ان ينظر إلى آدم في علمه والى نوح في فهمه فلينظر إلى علّي بن أبي طالب عليه السّلام.
وامّا الدّعوة: فانّ نوحاً عليه السّلام دعا على قومه بعد أن أضجره شأنهم وتقرّر له اصرارهم وعدوانهم، فقال: (رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)(2) فكذلك المرتضى (رضوان الله عليه)، لما أضجره شنآن قومه وتكاسلهم عمّا ندبهم إليه في يوم دعا عليهم قال: اللّهم انّ النّاس قد مللتهم وملّوني وسأمتهم وسأموني، اللهم بدلهم منّي شرّ بدل وبدلني منهم خير بدل…
وأمّا الإجابة: فقوله تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)(3)، فاجاب الله تعالى دعاء نوح عليه السّلام على قومه فارسل عليهم الطّوفان فأغرقوا، وكذلك المرتضى رضي الله عنه أجاب الله تعالى دعائه فسلّط عليهم غلام ثقيف، يعني الحجّاج فقتل منهم من قتل وفعل بهم ما فعل، كلّ ذلك عقوبة لهم بما خذلوا ولّي الله وخليفة رسوله في أهله، وقيل أحصى ديوانه بعد موته، فوجد فيه ثمانون الفاً قيل وكان آخر من قتل سعيد بن جبير فلم يقتل بعده أحداً لدعوة سعيد بن جبير، فاستجاب الله دعاءه فيه، وشغله بنفسه إلى ان أخرج من الدّنيا ملعوناً مذموماً…
وأمّا السّفينة: فقوله تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)(4) إلى قوله تعالى (ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)(5) فمن ركب سفينة نوح نجا من الغرق ومن تخلّف عنها صار من المغرقين، وقوله تعالى (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِل يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ)(6) إلى قوله تعالى (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)(7). وكذلك المرتضى رضوان الله عليه، وأهل بيته كانوا سفينة من ركبها نجا وذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح…
وأمّا البركة: فان الله تعالى استجاب دعاء نوح عليه السّلام في قومه واغرقهم الاّ ثمانين نفساً كانوا معه في سفينة من رجل وامرأة، ففرح ابليس بذلك وظنّ ان بني آدم قد استؤصلوا عن آخرهم ولا يكون لهم بعد ذلك دولة، فاكرمه الله تعالى بالبركة في أولاده حتّى ملأ الأرض بعد ذلك بمناكبها واستولوا على مسالكها ومذاهبها رغماً لا بليس واحزابه وقهراً للشيّطان واضرابه فقال: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاْخِرِينَ)(8) وقرىء (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاْخِرِينَ) بباء بعدها ألف.
فكذلك المرتضى رضي الله عنه لما قتل وسمّ الحسن وقتل الحسين في اصحابه وأولاده ولم يبق منهم الاّ قليل، فمنهم اسير ومنهم ذليل فرح بذلك ابليس في احزابه من شياطين الانس واضرابه، وظنّوا ان آل الرّسول عليه وعليهم السّلام قد استؤصلوا واهلكوا واستعجلوا فبارك الله عليهم وهم غير أولي الأمر، وانمى اولادهم على مرور الدّهر، ليعلم العاقل ان من نصره الله فلا يخذله احد، كل ذلك رغما لأنف ابليس وأتباعه من الشياطين وطواغيت الانس والملاعين، ولو كانوا أولي الأمر وولاته ونقباءه في العالم ورعاته لما كانت الآية في تكثيرهم وانماء عددهم بالغاية في الاعجوبة والنهاية في المثوبة والعقوبة، فانظر كيف أخذوا الأرض بأطرافها واستولوا على اكنافها وكيف سمّوا ساداتها واشرافها، ولو لم يكن منهم الاّ سكان بلدة واحدة من بلدان المسلمين وقطّان كورة من كور المؤمنين لكان كافياً فيما ذكرناه، مع كثرة ما استقبلهم من القتل والطّعن والشتم به والحبس من ايّام الأموّية، ثمّ المروانية إلى يومنا هذا والله ولّي المحسنين…
وأمّا السّلام: فانّ الله تعالى اختّص رسوله نوحاً عليه السّلام بالسّلام والتحيّة (سَلاَمٌ عَلَى نُوح فِي الْعَالَمِينَ)(9) فوجد به السّلامة والأمن والبركة في العمر والاولاد ولم يفعل كذلك لإبراهيم عليه السّلام وموسى وهارون والياس عليهم السّلام لأنّه قال: (سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(10) فاكتفى بالسّلام وقال: (سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ)(11)وكذلك قوله (سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) وعمّم سلام نوح قوله (فِي الْعَالَمِينَ) كانّه جعل له بعدد كل احد وبعدد كلّ شيء في العالم، ومن العالم ناطق وجماد وحيوان وموات سلاماً باقياً ذلك بقاء العالمين في الدّنيا والآخرة.
وامّا الشّكر: فانّ الله سبحانه وصف عبده نوحاً عليه السّلام بالشّكر في قوله تعالى (إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)(12) وذلك اعلاء لمرتبته ورفع لدرجة، فانّه عليه السّلام فيما استقبله من فنون البلايا والنوائب وضروب الرزايا والمصائب لم يرتض بالصّبر عليها وترك الجزع بل شكر الله تعالى على أن اكرمه بها وفضّله واختصّه بمثوباتها… ولا يضرّ نوحاً عليه السّلام قوله (رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)(13) فانّه لم يدع عليهم الاّ بعد أن أُوحي إليه انّه لن يؤمن من قومك الاّ من قد آمن، فلمّا يئس من ايمانهم وأيقن باصرارهم على عدوانهم، دعا الله سبحانه أن يخرجهم من الدّنيا فيريح المسلمين من وبالهم ويصيروا إلى جزاء افعالهم واقوالهم.
فكذلك المرتضى رضوان الله عليه كان فيما يستقبله من أذى.. لا يزداد الاّ شكراً لله سبحانه وايثاراً بالموجود وتركاً لطلب المفقود، فشكره الله سبحانه في كتابه واثنى عليه بجميل خطابه فقال: (وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً…)(14).
وامّا الاهلاك: فانّ نوحاً عليه السّلام كان سبب هلاك قومه بأن دعا عليهم فاستجيب له فيهم واغرقوا برمتّهم، فكذا المرتضى رضوان الله عليه، كان سبب هلاك القوم من بين محبّ مفرط أو مبغض مفتري… عن أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال يهلك فيّ رجلان، محبّ مفرط ومبغض مفتري…
قال البياضي: «نوح نجى من ركب في سفينته، وقد مثّل بها النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل بيته فنجا من تمسّك بعلّي وذريّته»(15).
عن عبيد بن عمير، قال: «كان نوح عليه السّلام يضربه قومه حتّى يغمى عليه، ثمّ يفيق فيقول: اللهم اهد قومي فانّهم لا يعلمون»(16).
وكذلك صبر أميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب على ما كان يلاقيه من الأذى، حتّى قال: «فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى».
روى محمّد بن يعقوب الكليني بإسناده عن يوسف بن أبي سعيد، قال: «كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام ذات يوم فقال لي: إذا كان يوم القيامة وجمع الله تبارك وتعالى الخلائق، كان نوح صلّى الله عليه وآله وسلّم أوّل من يدعى به فيقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: فيخرج نوح عليه السّلام يتخطى النّاس حتّى يجيء إلى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو على كثيب المسك، ومعه علّي عليه السّلام وهو قول الله عزّوجلّ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(17) فيقول نوح لمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا محمّد إنّ الله تبارك وتعالى سألني هل بلّغت؟ فقلت: نعم. فقال: من يشهد لك؟ فقلت: محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقول: يا جعفر يا حمزة، اذهبا واشهدا له انّه قد بلّغ. فقال أبو عبدالله عليه السّلام: فجعفر وحمزة هما الشاهدان للأنبياء عليهم السّلام بما بلّغوا، فقلت: جعلت فداك فعلّي عليه السّلام أين هو؟ فقال: هو أعظم منزلة من ذلك»(18).
(1) المناقب الفصل السّابع ص45. ورواه السيد شهاب الدين أحمد في توضيح الدلائل ص 459 مع فرق يسير.
(2) سورة نوح: 26.
(3) سورة الصّافات: 75.
(4) سورة هود: 37.
(5) سورة هود: 41.
(6) سورة هود: 42ـ43.
(7) سورة هود 42ـ43.
(8) سورة الصّافات: 108ـ79.
(9) سورة الصّافات: 108ـ79.
(10) سورة الصّافات: 109ـ120ـ130.
(11) سورة الصّافات: 109ـ120ـ130.
(12) سورة الاسراء: 3.
(13) سورة نوح: 26.
(14) سورة الدّهر: 22.
(15) الصّراط المستقيم الى مستحقي التّقديم ج1 ص100.
(16) اخبار اصبهان ج2 ص149.
(17) سورة الملك: 27.
(18) الرّوضة من الكافي ج8 ص267 طبع دار الكتب الاسلامية.