علي يشبه إبراهيم الخليل
روى الحمويني عن أبي الحمراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حلمه وإلى يحيى بن زكرّيا في زهده، وإلى موسى بن عمران في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه السّلام»(1).
قال العاصمي: «وقعت المشابهة بين المرتضى رضوان الله عليه وبين إبراهيم الخليل عليه السّلام بثمانية أشياء: أولها بالوفاء، والثانية بالوقاية، والثالثة بمناظرته أباه وقومهم، والرابعة باهلاكه الاصنام بيمينه، والخامسة ببشارة الله تعالى اياه بالولدين اللذين هما من اصول انساب الانبياء عليهم السّلام، والسادسة باختلاف احوال ذريتهما من بين محسن وظالم، والسابعة بابتلاء الله تعالى اياه بالنفس والولد والمال، والثامنة بتسمية الله اياه خليلا حين لم يؤثر شيئاً عليه.
1 ـ اما الوفاء: فقوله تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)(2) وذلك انه عليه السّلام احّل الجميع محل الاعداء بقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ)(3) فاوحى الله تعالى إليه انك قد ادعيت دعوى عظيمة، فأرِ من نفسك برهانا لها، فان من اعدائك نفسك ومالك وولدك، فانقاد الخليل لأمر الجليل واسلم نفسه إلى النيران وولده إلى القربان وماله إلى الضيفان، فقيل له: قد وفيت بما اديت، واتخذه الله خليلاً. وقيل: ان من وفائه انه لم يستغث باحد من المخلوقين حين رمي من المنجنيق إلى النّار، فاستقبله جبرئيل عليه السّلام في الهواء وقال له: يا إبراهيم هل من حاجة؟ فانا جبرئيل، قال إبراهيم: اما إليك فلا فان حاجتي إلى الجليل لا إلى جبرئيل، فقال له: فادع الله اذاً فانه يستمع إليك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فلما توكل على الله بكليته، قال الله: (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ).
وقيل: من وفائه انه تل ابنه للجبين واسلم لمولاه الملك الحق المبين، فنودي (يَا إِبْرَاهِيمُ(4) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)(5) فكذلك المرتضى كرم الله وجهه في وفائه لله سبحانه بالنذر، قوله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)(6).
2 ـ اما الوقاية: فان الله سبحانه وقى خليله إبراهيم عليه السّلام حرارة النار وشرّها فلو لم يقل (وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(7) لأهلكته النار ببردها وزمهريرها حتى يتفتت جسده، وذكر ان الله سبحانه لما قال (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً)(8) انطفاً كل نار على وجه الأرض شرقاً وغرباً، ولم ينتفع احد بالنار في جميع الأرض يومه ذلك، وقيل: إلى سبعة ايام وقيل: إلى ثلاثة ايام، والله اعلم بالصواب.
وقال أهل التحقيق من اصحابنا: ان النّار لم تتغير عن عنصرها، لأن قلب الجوهر لا يجوز، وكذلك قلب الطبايع، ولكن الله سبحانه صان خليله عليه السّلام عن شرها وضرها وحرقتها، فالنار نار والحرارة باقية ووقاية الله تعالى خليله إبراهيم صلوات الله عليه ظاهرة بادية جليّة فاشية، ليكون ادّل على القدرة واظهر في الاعجاز، فكذلك المرتضى رضوان الله عليه ادركته دعوة الرسول عليه السّلام فوقِيَ الحر والبرد… عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه انه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يسمر معه: ان الناس قد انكروا منك انك تخرج في البرد في ملاس وفي الحر في الخشو والثوب الثقيل، فقال له علي او لم تكن معنا بخيبر؟ قال: بلى قال: فان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لأعطين الراية رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله ليس بفرار، فأرسل إلي وأنا أرمد فتفل في عيني، ثم قال: اللهم اكفه اذى الحر والبرد. فما وجدت حراً بعد ولا برداً…
3 ـ واما مناظرته أباه وقومه: فان الله سبحانه لقنه الحجة وهو صغير حتى خرج وناظر أباه وقومه وذلك قوله تعالى حكايةً عنه: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً)(9) الآيات، وقوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً)(10) الآيات، وقوله تعالى: (إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ)(11) (أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ)(12)فمن نظائر لها من الآيات وذلك قوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَات مَّن نَّشَاء)(13) يعني بالعلم والحكمة نظير قوله: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات)(14) فكذلك المرتضى رضوان الله تعالى عليه لقنه الله سبحانه حجَّته وهو صبي صغير لم يراهق الحلم فناظر أباه وقومه، فتارة كان يدعوهم وتارة كان يناصحهم وتارة كان يجادلهم، ولم يكن الله سبحانه يودع حجته وحكمته إلاّ موضعها الاخص بها».
4 ـ وأما اهلاك الله تعالى الأصنام بيديه: فقوله تعالى: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ(15)، مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ(16)، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ)(17) وقوله تعالى (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)(18) فكسر الأصنام بيمينه واظهر الاسلام بتلقينه وبيّن ذلك لأولاده بعده إلى آخره الدهر، فكذلك المرتضى(19).
5 ـ وأما البشارة بالولدين: فان إبراهيم عليه السّلام لما أسلم وتبرّأ عمادون الله شكر الله سعيه ورضي عنه وقال: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ(20)، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)وبشره بالغلام الحليم الولد العليم «اسماعيل» واكرمه باسحاق نبياً من الصالحين، فكذلك المرتضى رضوان الله عليه لما اسلم لله وقام بنفسه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شكر الله سعيه ورضي عنه واكرمه السبطين الفاضلين احدهما الحسين الشهيد بدل اسماعيل الذبيح، والآخر الحسن السيد المسموم بدل اسحاق الصالح.
6 ـ واما اختلاف احوال ذريتهما: من بين محسن وظالم فقوله (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ)(21) يعني من ذرية اسماعيل واسحاق… فكذلك اولاد السبطين.. ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين.
7 ـ وامّا الابتلاء بالنفس والمال والولد: فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اشد النّاس بلاءً الانبياء، ثم الأمثل فالامثل حتى أن الرجل ليبتلى على حسب دينه» الخبر بتمامه، وقد كان إبراهيم عليه السّلام اعظم الانبياء منزلة عند الله سبحانه وأرفعهم درجة وأصلبهم في الدين واكملهم في اليقين ما خلا نبّينا صلّى الله عليه وآله وسلّم وكانت بلاياه على حسبها، فلذلك ابتلاه الله سبحانه بالنفس فقام بهذا مقام الصادقين وابتلاه بالمال يعمل فيها عمل المنفقين، ثم ابتلاه بالولد فسلم ولده إلى الذبح فعل المخلصين، فكذلك المرتضى رضوان الله عليه في صلابته في دين الله وشفقته على رسول الله وعلمه بكتاب الله ابتلاه الله بنفسه فصبر، وابتلاه بماله فانفق، وابتلاه بولده فسلّم.
8 ـ واما التسمية بالخليل: فقوله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا)(22) وذلك حين تبرأ عن الجميع بالكلية وانقطع بقلبه إلى خلاق البرية، فكذلك المرتضى رضوان الله عليه انقطع إلى سبحانه وهجر أصحابه واخوانه فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خليلا… عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ان خليلي ووزيري وخليفتي في أهلي وخير من أترك بعدي ومنجز موعدي ويقضي ديني علي بن أبي طالب».
قال البياضي: إبراهيم (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم)(23) وعلي الصراط المستقيم، وفي إبراهيم (رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)(24) وفي علي (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)(25) وإبراهيم الذي وفّي(26) وفي علي (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)(27) إبراهيم كسر الاصنام وأكبرها (أفلون) وكسرها عليّ وأكبرها (هبل)(28).
(1) فرائد السمطين ج1 ص170، ورواه ابن عساكر في ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق ج2 ص280 رقم 804، كما رواه السيد شهاب الدين أحمد في توضيح الدلائل في تصحيح الفضائل ص459، مخطوط.
(2) سورة النّجم: 37.
(3) سورة الشّعراء: 77.
(4) سورة الصّافات: 104ـ105.
(5) سورة الصّافات: 104ـ105.
(6) سورة الدهّر: 7.
(7) سورة الانبيآء: 69.
(8) سورة الانبياء: 69.
(9) سورة مريم: 43.
(10) سورة الأنعام: 76.
(11) سورة الصّافات: 85.
(12) سورة الصافات: 86.
(13) سورة الانعام: 83.
(14) سورة المجادلة: 11.
(15) سورة الصافات: 91ـ92.
(16) سورة الصافات: 91ـ92.
(17) سورة الصافات: 93.
(18) سورة الانبياء: 58.
(19) روى النسائي بأسناده عن أبي مريم، قال علي رضي الله عنه: انطلقت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى أتينا الكعبة، فصعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على منكبي فنهض به علي فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ضعفي قال لي: اجلس، فجلست فنزل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجلس لي وقال لي اصعد على منكبي فصعدت على منكبيه فنهض بي فقال عليّ رضي الله عنه انّه يخيل الي انّي لو شئت لنلت افق السّماء فصعدت على الكعبة وعليها تمثال من صفر او نحاس فجعلت أعالجه لازيله يميناً وشمالا وقداماً من بين يديه ومن خلفه حتّى استمكنت منه، فقال نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اقذفه فقذفت به فكسرته كما تكسر الفوارير ثمّ نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم نستبق حتّى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد. (الخصائص للنّسائي ص31).
(20) سورة الصافات: 99ـ100.
(21) سورة الصافات: 113.
(22) سورة النّساء: 125.
(23) سورة الانعام: 87.
(24) سورة هود: 73.
(25) سورة الأحزاب: 33.
(26) سورة النّجم: 37.
(27) سورة الدّهر: 7.
(28) الصّراط المستقيم إلى مستحقي التقديم ج1 ص100.