علي و قتاله للقاسطين «حرب صفين»
آثار حرب الجمل:
قال نصر بن مزاحم المنقري: «لما قدم علي بن أبي طالب من البصرة إلى الكوفة يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من رجب سنة ست وثلاثين، وقد أعز الله نصره واظهره على عدوه ومعه اشراف الناس وأهل البصرة استقبله أهل الكوفة وفيهم قراؤهم واشرافهم، فدعوا له بالبركة وقالوا: يا أميرالمؤمنين، أين تنزل؟ أتنزل القصر؟ فقال: لا ولكني أنزل الرحبة. فنزلها وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين، ثم صعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه وصلى على رسوله وقال: «اما بعد يا أهل الكوفة، فان لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدلوا وتغيّروا. دعوتكم إلى الحق فأجبتم، وبدأتم بالمنكر فغيرتم. ألا ان فضلكم فيما بينكم وبين الله في الاحكام والقسم، فأنتم اسوة من اجابكم ودخل فيما دخلتم فيه. ألا ان أخوف ما اخاف عليكم اتباع الهوى وطول الامل. فاما اتباع الهوى فيصد عن الحق، واما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا ان الدنيا قد ترحّلت مدبرة والآخرة ترحّلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل. الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه واعز الصادق المحق، وأذلّ الناكث المبطل، عليكم بتقوى الله وطاعة من اطاع الله من أهل بيت نبيكم، الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه، من المنتحلين المدعوين المقابلين الينا، يتفضلون بفضلنا، ويجاهدونا أمرنا، وينازعونا حقنا، ويدافعونا عنه، فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا، ألا انّه قد قعد عن نصرتي منكم رجال فانا عليهم عاتب زار، فاهجروهم واسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا، ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة»(1).
وروى بسنده عن عامر الشعبي: «ان شرحبيل بن السمط بن جبلة الكندي دخل على معاوية فقال: أنت عامل أميرالمؤمنين وابن عمه، ونحن المؤمنون، فان كنت رجلا تجاهد علياً وقتلة عثمان حتى ندرك بثأرنا أو تفنى أرواحنا استعملناك علينا، والاّ عزلناك واستعملنا غيرك ممن نريد، ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك. فقال جرير: يا شر حبيل، مهلا فان الله قد حقن الدماء، ولمّ الشعب وجمع أمر الأمة، ودنا من هذه الأمة سكون، فاياك أن تفسد بين الناس، وأمسك عن هذا القول، قبل أن يظهر منك قول لا تستطيع رده، قال: لا والله لا اسره ابداً، ثم قام فتكلم، فقال الناس: صدق صدق القول ما قال، والرأي ما رأى فأيس جرير عند ذلك عن معاوية وعن عوام أهل الشام».
وروى بسنده عن الجرجاني قال: «كان معاوية أتى جريراً في منزله فقال: يا جرير، أني قد رأيت رأياً. قال: هاته قال: اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقي، وأسلم له هذا الأمر، وأكتب اليه بالخلافة. فقال جرير: اكتب بما أردت، واكتب معك. فكتب معاوية بذلك إلى علي فكتب علي إلى جرير:
«اما بعد، فانما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره ما أحب، واراد أن يريثك حتى يذوق أهل الشام، وان المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليّ أن استعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة، فأبيت ذلك عليه، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضداً فان بايعك الرجل والا فأقبل».
وفشا كتاب معاوية في العرب فبعث اليه الوليد بن عقبة:
معاوي ان الشام شامك فاعتصم *** بشامك لا تدخل عليك الافاعيا
وحام عليها بالقنابل والقنا *** ولا تك محشوش الذراعين وانيا
وان علياً ناظر ما تجيبه *** فأهد له حرباً تشيب النواصيا
والا فسلم ان في السلم راحة *** لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا
وان كتاباً يا ابن حرب كتبته *** على طمع، يزجى اليك الدواهيا
سألت علياً فيه ما لن تناله *** ولو نلته لم يبق الا لياليا
وسوف ترى منه الذي ليس بعده *** بقاء فلا تكثر عليك الامانيا
أمثل علي تعتريه بخدعة *** وقد كان ما جرّبت من قبل كافيا
ولو نشبت أظفاره فيك مرة *** حذاك ابن هند منه ما كنت حاذياً»
وروى بسنده عن محمّد وصالح بن صدقة، قالا: «وكتب علي إلى جرير بعد ذلك: «اما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثم خيره بين حرب مجلية، أو سلم محظية، فان اختار الحرب فانبذ له، وان اختار السلم فخذ بيعته»(2).
(1) وقعة صفين ص3.
اعتمدنا في الشطر الأكبر من هذا الفصل على كتاب (وقعة صفين) لنصر بن مزاحم المنقري. لأنه أقدم نص جامع في هذا الموضوع.
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: «ونحن نذكر ما أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين في هذا المعنى، فهو ثقة ثبت، صحيح النقلّ، غير منسوب إلى هوىً ولا ادغال، وهو من رجال أصحاب الحديث».
(شرح نهج البلاغة، ج2 ص206 تحقيق أبي الفضل إبراهيم).
(2) وقعة صفين ص55.