دور عمار في الحرب:
روى نصر بسنده عن الحسن عن النبي صلّى الله عليه، قال: «ان الجنة لتشتاق الى ثلاثه: عليّ وعمّار وسلمان»(1).
وروى بسنده عن حبيب بن أبي ثابت قال: لما بني المسجد جعل عمّار يحمل حجرين، فقال له رسول الله صلّى الله عليه: «يا أبا اليقظان، لا تشفق على نفسك» قال: يا رسول الله اني أحب ان اعمل في هذا المسجد قال: ثم مسح ظهره ثم قال: «انك من أهل الجنة تقتلك الفئة الباغية»(2).
وقال نصر: «وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع حتى انتهيا الى أصحابه. فذهب أبو نوح إلى عمّار فوجده قاعداً مع أصحاب له، منهم ابنا بديل، وهاشم، والأشتر، وجارية بن المثنى، وخالد بن المعمر، وعبدالله بن حجل، وعبد الله بن العبّاس. وقال أبو نوح: انه دعاني ذو الكلاع وهو ذو رحم فقال: اخبرني عن عمّار بن ياسر، أفيكم هو؟ قلت: لم تسأل؟ قال: أخبرني عمرو بن العاص في امرة عمر بن الخطاب انه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «يلتقي أهل الشام وأهل العراق وعمّار في أهل الحق يقتله الفئة الباغية» فقلت: إن عماراً فينا فسألني: أجاد هو على قتالنا؟ فقلت نعم والله أجد منّي ولوددت أنكم خلق واحد فذبحتكم وبدأت بك يا ذا الكلاع، فضحك عمّار وقال: هل يسرك ذلك؟ قال: قلت نعم قال أبو نوح: أخبرني الساعة عمرو بن العاص انه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «عمّار يقتله الفئة الباغية» قال عمّار: أقررته بذلك؟ قال: نعم أقررته فاقر: فقال عمّار: صدق وليضرنه ما سمع ولا ينفعه»(3).
روى نصر بسنده عن عمر بن سعد قال: «وفي هذا اليوم قتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه، أصيب في المعركة وقد كان قال عمّار حين نظر إلى راية عمرو بن العاص: والله ان هذه الراية قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن ثم قال عمّار:
نحن ضربناكم على تنزيله *** فاليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله
او يرجع الحق إلى سبيله
ثم استسقى وقد اشتد ظمؤه، فأتته امرأة طويلة اليدين والله ما أدري أعس معها أم إداوة فيها ضياح من لبن فقال حين شرب:
الجنّة تحت الأسنّة *** اليوم ألقى الأحبّه
محمّداً وحزبه
والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وهم على الباطل» ثم حمل وحمل عليه ابن جون السكوني وأبو العادية الفزاري، فاما أبو العادية فطعنه، وأما ابن جون فانه احتز رأسه.
وقد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمّار بن ياسر: «يقتلك الفئة الباغية وآخر شربة تشربها ضياح من لبن» فقال ذو الكلاع لعمرو: ويحك ما هذا؟ قال عمرو: انه سيرجع الينا ويفارق أبا تراب، وذلك قبل أن يصاب عمّار فأصيب عمّار مع علي، وأصيب ذو الكلاع مع معاوية، فقال عمرو: والله يا معاوية ما أدري بقتل ايهما أنا أشد فرحا. والله لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمّار لمال بعامة قومه إلى علي، ولأفسد علينا جندنا»(4).
وقال المسعودي: «وقال عمّار بن ياسر: اني لأرى وجوه قوم لا يزالون يقاتلون حتى يرتاب المبطلون والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لكنا على الحق وكانوا على الباطل.
وتقدم عمّار فقاتل ثم رجع إلى موضعه فاستسقى، فأتته امرأة من نساء بني شيبان من مصافهم بعس فيه لبن، فدفعته اليه، فقال: الله أكبر، الله أكبر اليوم ألقى الأحبة تحت الاسنة، صدق الصادق، وبذلك أخبرني الناطق، وهو اليوم الذي وعدت فيه ثم قال: أيها الناس، هل من رائح إلى الله تحت العوالي، والذي نفسي بيده لنقاتلنهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله، وتقدم وهو يقول:
نحن ضربناكم على تنزيله *** فاليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله
فتوسط القوم، واشتبكت عليه الأسنة، فقتله أبو العادية العاملي وابن جون السكسكي، واختلفا في سلبه، فاحتكما إلى عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال لهما: اخرجا عني، فاني سمعت رسول الله صلاى الله عليه وآله وسلّم يقول: أو قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وولعت قريش بعمار «ما لهم ولعمّار؟ يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» وكان قتله عند المساء وله ثلاث وتسعون سنة، وقبره بصفين وصلى عليه علي عليه السّلام ولم يغسله، وكان يغيّر شيبه»(5).
ليلة الهرير:
قال المسعودي: «ونظر علي إلى غسان في مصافهم لا يزولون، فحرض أصحابه عليهم، وقال: انّ هؤلاء لن يزولوا عن موقفهم دون طعن يخرج منه النسيم، وضرب يفلق الهام ويصجّ العظام، وتسقط منه المعاصم والأكف، وحتى تشدخ جباههم بعمد الحديد، وتنتثر لممهم على الصدور والاذقان، أين أهل الصبر وطلاب الأجر؟ فثاب اليه عصابة من المسلمين من سائر الناس، فدعا ابنه محمّداً، فدفع اليه الراية وقال: امش بها نحو هذه الراية مشياً رويداً، حتى اذا أشرعت في صدورهم الرماح فامسك حتى يأتيك أمري، ففعل، وأتاه علي ومعه الحسن والحسين وشيوخ بدر وغيرهم من الصحابة وقد كردس الخيل، فحملوا على غسان ومن يليها، فقتلوا منها بشراً كثيراً وعادت الحرب في آخر النهار كحالها في أوله، وحملت ميمنة معاوية وفيها عشرة آلاف من مذحج وعشرون ألفاً مقنعون في الحديد على ميسرة علي، فاقتطعوا ألف فارس، فانتدب من اصحاب علي عبد العزيز بن الحارث الجعفي وقال لعلي: مرني بأمرك، فقال: شد الله ركنك، سر حتى تنتهي إلى اخواننا المحاط بهم، وقل لهم: يقول لكم علي: كبروا ثم احملوا ونحمل حتى نلتقي، فحمل الجعفي، فطعن في عرضهم حتى انتهى اليهم، فأخبرهم بمقالة علي، فكبروا ثم شدوا حتى التقوا بعلي، وشدخوا سبعمائة من أهل الشام، وقتل حوشب ذو ظليم وهو كبش من كباش اليمن من أهل الشام، وكان على راية ذهل ابن شيبان وغيرها من ربيعة الحضين بن المنذر ابن الحارث بن وعلة الذهلي، وفيه يقول علي في هذا اليوم:
لمن راية سوداء يخفق ظلها *** إذا قلت قدمها حضين تقدما
فأمره بالتقدم، واختلط الناس، وبطل النبل، واستعملت السيوف، وجنهم الليل، وتنادوا بالشعار وتقصفت الرماح، وتكادم القوم، وكان يعتنق الفارس الفارس ويقعان جميعاً إلى الأرض عن فرسيهما، وكانت ليلة الجمعة ـ وهي ليلة الهرير ـ فكان جملة من قتل علي بكفه في يومه وليلته خمسمائة وثلاثة وعشرين رجلا أكثرهم في اليوم، وذلك انه كان إذا قتل رجلا كبر إذا ضرب ولم يكن يضرب إلا قتل، ذكر ذلك عنه من كان يليه في حربه ولا يفارقه من ولده وغيرهم.
وأصبح القوم على قتالهم، وكسفت الشمس، وارتفع القتام، وتقطعت الألوية والرايات ولم يعرفوا مواقيت الصلاة، وغدا الأشتر يرتجز وهو يقول:
نحن قتلنا حوشبا *** لما غدا قد أعلما
وذا الكلاع قبله *** ومعبدا اذ اقدما
إن تقتلوا منا أبا اليقظان *** شيخاً مسلما
فقد قتلنا منكم *** سبعين رأساً مجرما
أضحوا بصفين وقد *** لاقوا نكالا مؤلما»(6)
ومن كلام لأمير المؤمنين قال الشريف الرضي: ان المشهور أنه قاله لأصحابه ليلة الهرير: «معاشر المسلمين استشعروا الخشية، وتجلببوا السكينة وعضوا على النواجذ فانه أنبى للسيوف عن الهام، واكملوا اللأمة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها والحظوا الخزر، واطعنوا الشزر، ونافحوا بالظبا، وصلوا السيوف بالخطا، واعلموا انكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله، فعاودوا الكر واستحيوا من الفر، فانه عار في الاعقاب ونار يوم الحساب، وطيبوا عن انفسكم نفساً وامشوا إلى الموت مشياً سجحاً، وعليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنّب، فاضربوا ثبجه فان الشيطان كامن في كسره وقد قدم للوثبة يداً، وأخر للنكوص رجلا فصمداً صمداً حتى ينجلي لكم عمود الحق(7) (وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)(8).
ومن خطبة له عليه السّلام بعد ليلة الهرير، وقد قام اليه رجل من اصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندر أي الأمرين أرشد؟ فصفق عليه السلام إحدى يديه على الاخرى ثم قال: «هذا جزاء من ترك العقدة، أما والله لو اني حين أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً فإن استقمتم هديتكم وان اعوججتم قومتكم، وان ابيتم تداركتكم، لكانت الوثقى، ولكن بمن والى من؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها! اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوي وكلَّت النزعة بأشطان الركيِّ، اين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآن فاحكموه وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وَلَه اللقاح الى اولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا، لا يبشَّرون بالأحياء ولا يُعزّون عن الموتى، مره العيون من البكاء خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الالوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين اولئك اخواني الذاهبون فحق لنا أن نظمأ اليهم ونعض الأيدي على فراقهم، ان الشيطان يسنّى لكم طرقه ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة ويعطيكم بالجماعة الفرقة وبالفرقة الفتنة، فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته واقبلوا النصيحة ممن أهداها اليهم واعقلوها على أنفسكم»(9).
(1) وقعة صفين ص362و323 و324.
(2) وقعة صفين ص362و323 و324.
(3) وقعة صفّين ص335.
(4) وقعة صفين ص340.
(5) مروج الذهب ج2 ص391.
(6) مروج الذهب ج2 ص398.
(7) نهج البلاغة ـ صبحي الصّالح ص97.
(8) سورة محمّد: 35.
(9) نهج البلاغة ص177.