دلالة حديث الغدير
قال سبط ابن الجوزي: قال علماء العربية: «لفظة مولى يرد على وجوه (احدها) بمعنى المالك (الثّاني) بمعنى المولى المعتق، بكسر التّاء، (الثّالث) بمعنى المعتق بفتح التّاء (الرّابع) بمعنى النّاصر… (الخامس) بمعنى ابن العمّ (السّادس) الحليف.. (السّابع) المتوّلى لضمان الجريرة وحيازة الميراث، كان ذلك في الجاهلية، ثمّ نسخ بآية المواريث (الثامن) الجار.. (التّاسع) السّيد المطاع وهو المولى المطلق، قال في الصّحاح: كلّ من ولى أمر احد فهو وليّه (والعاشر) بمعنى الاُولى قال الله تعالى: (فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ)(1) اي أولى بكم.
وإذا ثبت هذا لم يجز حمل لفظة المولى في الحديث على مالك الرّق، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن مالكاً لرق عليّ عليه السّلام حقيقة، ولا على المولى المعتق لأنه لم يكن معتقاً لعليّ، ولا على المعتق لأنّ عليّاً عليه السّلام كان حرّاً، ولا على النّاصر، لأنّه عليه السّلام كان ينصر من ينصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويخذل من يخذله، ولا على ابن العمّ لأنّه كان ابن عمّه، ولا على الحليف، لأنّ الحليف يكون بين الغرماء للتعاضد والتناصر، وهذا المعنى موجود فيه، ولا على المتّولى لضمان الجريرة لما قلنا انّه انتسخ ذلك، ولا على الجار، لأنّه يكون لغواً من الكلام وحاشا منصبه الكريم من ذلك، ولا على السيّد المطاع، لأنّه كان مطيعاً له يفيده بنفسه ويجاهد بين يديه.
والمراد من الحديث الطّاعة المحضة المخصوصة فتعيّن الوجه العاشر وهو الأولى ومعناه من كنت أولى به من نفسه فعلّي اولى به، وقد صرّح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى بن السّعيد الثقّفي الاصبهاني في كتابه المسّمى بمرج البحرين فانّه روى هذا الحديث بأسناده إلى مشايخه، وقال فيه: فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيد علّي فقال: من كنت وليّه وأولى به من نفسه فعلّي وليّه، فعلم ان جميع المعاني راجعة إلى الوجه العاشر، ودلّ عليه ايضاً قوله عليه السّلام: ألستُ أولى بالمؤمنين من انفسهم؟ وهذا نصّ صريح في اثبات امامته وقبول طاعته، وكذا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وأدر الحق معه حيث ما دار وكيفما دار، فيه دليل على انّه ما جرى خلاف بين علي عليه السّلام وبين أحد من الصحابة الاّ والحق مع علي عليه السّلام، وهذا بإجماع الأمة»(2).
وقد أطال الكلام علماؤنا الأعلام في بيان وجه الاستدلال بحديث الغدير على إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام، لأهميّته الفائقة، على أثر تواتره سنداً وكثرة وجوه دلالته.
وخلاصة الكلام هو: إنّ لفظ «المولى» الموجود في متن الحديث إمّا مشترك معنوي بين معانيه المتعدّدة، وإمّا هو مشترك لفظي، فإنْ كان مشتركاً معنويّاً كان المعنى الموضوع له هو «الأولوية» ولا كلام بعد ذلك، وإنْ كان مشتركاً لفظياً، فمقتضى القاعدة هو الرّجوع إلى القرائن المعيّنة للمعنى المقصود منه في الحديث، وعندما نرجع إلى ألفاظ حديث الغدير وما تشتمله الروايات المختلفة الكثيرة نجد القرائن القويّة الداخلية والخارجية، المعيّنة للمقصود ـ وهو الأولوية ـ بحيث لا يبقى مناصٌ للباحث المنصف من الإذعان بذلك، فلنشر إلى طائفة من تلك القرائن بإيجاز:
1 ـ نزول الآيات القرآنية قبل الحديث وبعده، والعمدة فيها قوله تعالى قبل الخطبة (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ…) وقوله بعدها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ…).
2 ـ اعتراض الأعرابي وكلامه ونزول قوله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ…) في ذلك.
3 ـ شعر حسّان بن ثابت، المذكور.
4 ـ شعر قيس بن سعد بن عبادة المذكور.
5 ـ شعر أمير المؤمنين عليه السّلام.
6 ـ مناشدة أمير المؤمنين بحديث الغدير، أكثر من مرة.
7 ـ تسليم جماعة من الصحابة ـ وعلى رأسهم أبو أيوب الأنصاري ـ على الامام بلفظ: «السلام عليك يا مولانا» إستناداً إلى حديث الغدير.
8 ـ قول النبي في أوّل الحديث: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» مشيراً إلى قوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ) فلمّا أجابوا بالإيجاب قال: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه».
9 ـ تهنئة كبار الصحابة ـ وعلى رأسهم أبو بكر وعمر ـ قائلين: «بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولانا ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة».
10 ـ فهم غير واحد من الصحابة معنى «الأولوية» من حديث الغدير.
فهذه عشرة من القرائن، وهناك أمور غيرها، فمن شاء فليرجع إلى الكتب المطوّلة في الباب.
(1) سورة الحديد.
(2) تذكرة خواص الأمة ص31.