دلالة الحديث
واستدلّ العلامة الحلي بما رواه الجمهور بأجمعهم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال لأمير المؤمنين عليه السّلام: «أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني، وهو نص في الباب»(1).
وقال ايضاً: «وفي مسند ابن حنبل من عدة طرق: ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم آخى بين الناس وترك علياً حتى بقي آخرهم لا يرى له أخاً، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك وتركتني؟ فقال: انما تركتك لنفسي، أنت أخي وأنا اخوك، فإن ذاكرك أحد فقل: أنا عبدالله وأخو رسول الله لا يدّعيها بعدك الاّ كذاب، والذي بعثني بالحق، ما اخترتك الاّ لنفسي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي بعدي، وأنت اخي ووارثي. وفي الجمع بين الصحاح الستة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: مكتوب على باب الجنة: محمّد رسول الله، علي أخو رسول الله قبل ان يخلق الله السموات بألفي عام»(2).
وقال ايضاً: «حديث المؤاخاة ـ روى انس: لما كان يوم المباهلة وآخى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين المهاجرين والانصار، وعلي عليه السّلام واقف يراه ويعرف مكانه ولم يواخ بينه وبين أحد، فانصرف علي عليه السّلام باكي العين فافتقده النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: ما فعل أبو الحسن؟ قالوا: انصرف باكي العين، قال: قال يا بلال اذهب فاتني به، فمضى إليه وقد دخل منزله باكي العين، فقالت فاطمة عليهما السّلام: ما يبكيك لا ابكى الله عينك؟ فقال: واخى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين المهاجرين والانصار وأنا واقف يراني ويعرف مكاني ولم يواخ بيني وبين احد فقالت له: لا يحزنك الله، لعله انما ادخرك لنفسه، فقال بلال: يا علي اجب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأتى، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما يبكيك يا أبا الحسن، فقال: واخيت بين المهاجرين والانصار يا رسول الله وأنا واقف تراني وتعرف مكاني ولم تواخ بيني وبين أحد، فقال: انّما ادّخرتك لنفسي، ألا يسرك ان تكون أخا نبيك؟ قال: بلى يا رسول الله، أنّى لي بذلك، فأخذ بيده فأرقاه المنبر فقال: اللهم ان هذا مني وأنا منه، ألا انّه مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي، ألا فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، فانصرف علي عليه السّلام قرير العين، فاتبعه عمر، وقال: بخ بخ لك يا أبا الحسن اصبحت مولاي ومولى كل مسلم ومسلمة. والمواخاة تدل على الافضلية، فيكون هو الإمام»(3).
وقال شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي: «الدليل على ان الإمام الحق بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بلا فصل أميرالمؤمنين علي عليه السّلام بدليل انه نص عليه نصّاً متواتراً بالخلافة، ولا نصّ على أحد غيره، مثل أبي بكر والعبّاس، والنص مثل قوله: «أنت أخي ووزيري والخليفة من بعدي» ويدل الحديث على امامته أيضاً، وانّه معصوم وغيره ليس بمعصوم بإجماع المسلمين»(4).
وقال السيد القاضي نور الله التستري في كتابه القيم (احقاق الحق): «لما نزل قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(5) آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين الأشكال والنظائر بوحي من الله تعالى، ليكون كل أخ يعرف بنظيره وينسب إلى قرينه، ويستدل به عليه ويتضح به شرف منازل الأصحاب، ويتميز به الخبيث من الطيب، والمميز لهم كان جبرئيل عليه السّلام، مع ان مماثلة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تقع الا على الصحة والسداد، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يجوز ان يشبه الشيء بخلافه ويمثله بضده، لكن يضع الاشياء في مواضعها للمواد المتصلة به من الله تعالى، فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي عليه السّلام: أنت أخي وأنا اخوك يريد به ان المناظرة والمشابهة والمشاكلة بينهما من الطرفين وفي جميع المنازل الا النبوة خاصة، والعرب تقول للشيء انه أخو الشيء إذا شبهه وماثله وقارنه ووافق معناه، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً)(6) وكانا جبرئيل وميكائيل عليهما السّلام، وقوله تعالى: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء)(7) ومعلوم ان الاخوة في النسب فقط لا توجب فضلاً، لان الكافر قد يكون اخاً لمؤمن، لكن الاخوة في المماثلة والمشابهة هي الموجبة للفضل، ومولانا أميرالمؤمنين عليه السّلام حصلت له من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الاخوة فيها وفي مراتب كثيرة.
منها: انّه مماثله في النفس بنص القرآن المجيد وقد سبق بيانه في آية المباهلة.
ومنها: انّه مضاهيه في الولاية لقوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ)(8)الآية وقد تقدم ايضاً.
ومنها: انه مناظره في العصمة بدليل قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)(9) الآية. وقد مضى شرحه.
ومنها: انه مشابهه ومشاركه في الأداء والتبليغ بدليل الوحي من الله سبحانه إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يوم اعطى براءة لغيره، فهبط جبرئيل عليه السّلام وقال: لا يؤديها الاّ أنت أو رجل منك، فاستعادها من أبي بكر ودفعها إلى علي عليه السّلام، وقد سلف بيانه.
ومنها: انّه نظيره في النسب الطاهر الكريم.
ومنها: انّه نظيره في الموالاة، لقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من كنت مولاه فعلي مولاه كما مر.
ومنها: فتح بابه في المسجد كفتح باب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجوازه في المسجد كجوازه ودخوله في المسجد جنباً كحال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. وقد مرّ ايضاً.
ومنها: انه نظيره في النور قبل خلق آدم بأربعة آلاف عام، والتسبيح والتقديس يصدر منهما لله عزّوجلّ، وقد تقدم هذا ايضاً.
ومنها: أن نظيره في استحقاق الامامة، لانه يستحقها على طريق استحقاق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم النبوة سوآء، بدليل قوله تعالى لإبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي)(10) الآية. وقد مرّ بيان ذلك، وانهما عليهما السّلام دعوة إبراهيم الخليل عليه السّلام.
ومنها أنه أخوه بسببين آخرين وهو: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يسمي فاطمة بنت أسد أمّاً، والعم يسمى أباً بدليل قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ)(11)الآية. قال الزّجاج: أجمع النسابون ان اسم أب إبراهيم تارخ، وبقوله تعالى حكاية عن يعقوب (مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي)(12) الآية وإسماعيل كان عمه.
إلى غير ذلك من الاشياء الشريفة التي شابهه وناظره فيها وتعذر استقصاؤها ههنا، ومن يكون مشاكلا ومضاهياً للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه المراتب العظيمة الجليلة، لاريب في انّه يكون احق بالخلافة واجدر ممّن لم يحصل له شيء من هذه أو بعضها، وهذا ظاهر لمن تأمّله، بين لمن تدبره. ان شاء الله سبحانه»(13).
أقول: كون أمير المؤمنين عليه السلام أخاً لرسول الله صلّى الله عليه وآله ثابت بالأحاديث القطعية من طرق الفريقين، ومن الأدلّة الثابتة المشهورة على ذلك حديث المؤاخاة الذي نصّ كبار علماء أهل السنّة عليه، حتى أنّ غير واحد منهم ردّ على ابن تيميّة تكذيبه له(14) مع الإصرار على ذلك، لعلمه ذلك على فضيلة خاصّة بعلي، وابن تيمية ممّن يرى أن الأفضلية توجب الامامة ـ فمثلاً: يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني بعد نقل حديث المؤاخاة برواية الواقدي وابن سعد وابن إسحاق وابن عبد البر والسهيلي وابن كثير وغيرهم: «وأنكر ابن تيميّة في كتاب الردّ على ابن المطهّر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبي لعلي، قال: لأن المؤاخاة شرّعت لإرفاق بعضهم بعضاً ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي لأحد منهم ولا مؤاخاة مهاجري لمهاجري.
وهذا ردّ للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة…»(15).
وعلى الجملة، فإنّ المؤاخاة بينهما من خصائصه القطعية وفضائلة الثابتة التي لا تقبل الشك، فيكون من جملة أدلّة امامته العامة وولايته المطلقة من بعد النبي مباشرةً.
(1) منهاج الكرامة، المنهج الثالث في الادلة المستندة إلى السّنة المنقولة عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الحديث الخامس ص103 مخطوط.
(2) كشف الحق ونهج الصدق باب الأخبار المتواترة عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الدالة على أمامته الحديث الثالث عشر ص103.
(3) منهاج الكرامة ص103 مخطوط.
(4) رسالة في الأعتقادات ص8 مخطوط.
(5) سورة الحجرات: 10.
(6) سورة ص: 23.
(7) سورة مريم: 28.
(8) سورة المائدة: 55.
(9) سورة الاحزاب: 33.
(10) سورة البقرة: 124.
(11) سورة الانعام: 74.
(12) سورة البقرة: 133.
(13) احقاق الحق ص326 مخطوط.
(14) منهاج السنة ج4 ص32 و ج5 ص71 و ج7 ص117.
(15) فتح الباري ج7 ص271.