3 ـ عبد اللّه بن أبي سرح(1)
قال قدس سرّه: وولّى عبد اللّه بن أبي سرح مصر… .
الشرح:
وهو عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، أخو عثمان بن عفان من الرّضاع.
إرتدّ في عهد النبي صلّى اللّه عليه وآله وكان من كتّاب الوحي، فلحق بالكفّار، فأهدر النبي دمه، فستره عثمان بن عفان يوم الفتح، مع أن النبي صلّى اللّه عليه وآله كان قد قال في ذلك اليوم: «أربعة لا أومنّهم في حلّ ولا في حرم» وأحدهم ابن أبي سرح، فجاء به إلى النبي، فاستوهبه منه، فعفا عنه.
قالوا: وكان رجل من الأنصار قد نذر أن يقتل ابن أبي سرح، إذ رآه إطاعة لأمر النبي صلّى اللّه عليه وآله، فلمّا وجده عند النبي ـ وكان يأبى أن يبايعه ـ هاب قتله، فقال له النبي صلّى اللّه عليه وآله: انتظرتك أن توفي نذرك. قال: يا رسول اللّه هبتك، أفلا أومضت. قال: إنه ليس لنبىّ أنْ يغمز أو يومض. وفي رواية: إنه صلّى اللّه عليه وآله قال لمن حوله: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله.
قالوا: وقد كان عمرو بن العاص عاملاً لعثمان على مصر، فعزله عن الخراج وأقرّه على الصّلاة والجند، واستعمل عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح على الخراج، فتباغيا، فكتب عبد اللّه بن سعد إلى عثمان: إن عمرو بن العاص كسر عليّ الخراج. وكتب عمرو إلى عثمان: إن عبد اللّه بن سعد قد كسر عليَّ مكيدة الحرب. فكتب عثمان إلى عمرو: أن انصرف، فعزله وولّى عبد اللّه بن سعد الجند والصّلاة مع الخراج بمصر. فقدم عمرو مغضباً، فدخل على عثمان وعليه جبّة محشوّة قطناً، فقال له: ما حشو جبّتك؟ قال: عمرو، قال: قد علمت ولم أرد هذا، إنما سألت أقطن هو أم غيره؟ قال: لكني قد أحببت أن أعلمك أن فيها عمرو بن العاص.
وكان ابن سعيد في حشد في حمل المال ليصدّق حديثه وما كان يكتب به إلى عثمان، فحمل أكثر مما كان يحمل، فلما قدم ذلك على عثمان، أرسل إلى عمرو، فدخل عليه، فقال: هل علمت ـ يا أبا عبد اللّه ـ أن اللقاح قد درّت بعدك؟ قال: إنكم أعجفتم أولادها.
ثم أقام عمرو بالمدينة.
وأخرج ابن عساكر بإسناده عن الزهري قال:
«قلت لسعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف كان قتل عثمان، وما كان شأن الناس وشأنه، ولم خذله أصحاب محمد؟
فقال: قتل عثمان مظلوماً، ومن قتله كان ظالماً، ومن خذله كان معذوراً.
قلت: وكيف كان ذلك؟
قال: إن عثمان لما ولّي، كره ولايته نفر من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وآله، لأن عثمان كان يحبّ قومه، فولي الناس اثنتي عشرة سنة، وكان كثيراً ما يولّي بني أمية ممن لم يكن ]له[ مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله صحبة، فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وآله، وكان عثمان يستعتب فيهم، فلا يعزلهم، فلمّا كان في الستّ حجج الأواخر استأثر بني عمه، فولاّهم، وما أشرك معهم، وأمرهم بتقوى اللّه، ولّى عبد اللّه بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلّمون منه، وقد كان قبل ذلك من عثمان هنات إلى عبد اللّه بن مسعود، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، فكانت بنو هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لحال ابن مسعود، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم قد خنقت على عثمان لحال عمّار بن ياسر.
وجاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح، فكتب إليه كتاباً يتهدده فيه، فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان، وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان من أهل مصر ممن كان أتى عثمان، فقتله.
فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل، فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وآله في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح بهم، فقام طلحة بن عبيد اللّه فكلّم عثمان بن عفان بكلام شديد، وأرسلت عائشة إليه، فقالت: تقدّم إليك أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وآله وسألوك عزل هذا الرجل، فأبيت إلاّ واحدة، فهذا قد قتل منهم رجلاً، فأنصفهم من عاملك.
ودخل عليه علي بن أبي طالب، وكان متكلّم القوم، فقال: إنما يسائلونك رجلاً مكان رجل، وقد ادّعوا قبله دماً، فاعزله عنهم، واقض بينهم، فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه، فقال لهم: اختاروا رجلاً اُولّيه عليكم مكانه، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فقال: استعمل عليه محمد بن أبي بكر، فكتب عهده، وولاّه وخرج معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح.
]فخرج[ محمد ومن معه، فلمّا كان على مسيرة ثلاث من المدينة، إذا هم بغلام أسود ]على بعير[ يخبط البعير خبطاً، كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وآله ما قصّتك؟ وما شأنك؟ هارب أو طالب؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين; وجّهني إلى عامل مصر، ]فقال له رجل: هذا عامل مصر[ قال: ليس هذا أريد وأخبر ]بأمره[ محمد بن أبي بكر، فبعث في طلبه رجلاً، فأخذه، فجيء به، قال فنظر إليه، فقال: غلام من أنت؟ فأقبل مرّة يقول أنا غلام أمير المؤمنين، ومرّة يقول أنا غلام مروان، حتى عرفه رجل أنه لعثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر، قال: بماذا؟ قال: برسالة، قال: معك كتاب؟ قال: لا، ففتّشوه فلم يجدوا معه كتاباً، وكانت معه إداوة قد يبست، فيها شيء يتقلقل، فحرّكوه ليخرج فلم يخرج فشقوا الإداوة، فإذا فيها كتاب: من عثمان إلى ابن أبي سرح. فجمع محمد من كان عنده من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه: إذا أتاك فلان ومحمد وفلان، فاحتل قتلهم، وأبطل كتابه، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي، واحبس من يجيء إليّ يتظلم منك، ليأتيك رأيي في ذلك إن شاء اللّه، فلما قرءوا الكتاب فزعوا وأزمعوا، فرجعوا إلى المدينة، وختم محمد الكتاب بخواتيم نفر كانوا معه، ودفع الكتاب إلى رجل منهم.
وقدموا المدينة، فجمعوا طلحة، والزبير، وعلياً، وسعداً، ومن كان من أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وآله، ثم فضّوا الكتاب بمحضر منهم، وأخبروهم بقصّة الغلام، وأقرؤهم الكتاب، فلم يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وأبي ذر وعمّار، حنقاً وغيظاً، وقام أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وآله فلحقوا بمنازلهم ما منهم أحد إلا وهو مغتمّ لما قرأوا الكتاب، وحاصر الناس عثمان، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم.
فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمّار ونفر من أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وآله، كلّهم بدري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، فقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، قال: والبعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف باللّه ما كتبتُ هذا الكتاب، ولا أمر به، ولا علم به.
قال له علي: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم، قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف باللّه ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به، ولا وجّهت هذا الغلام إلى مصر قط، وأما الخطّ فعرفوا أنه خط مروان، وشكوا في أمر عثمان، وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى، وكان مروان عنده في الدار.
فخرج أصحاب محمد من عنده غضاباً وشكّوا في أمره، وعلموا أن عثمان لا يحلف بباطل، إلا أن قوماً قالوا: لن يبرأ عثمان من قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحثه ونعرف حال الكتاب، وكيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب محمد بغير حق، فإن يكن عثمان كتبه عزلناه، وإن يكن مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في أمر مروان، ولزموا بيوتهم، وأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان، وخشي عليه القتل، وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء، فأشرف على الناس، فقال:
أفيكم علي؟ فقالوا: لا، أفيكم سعد؟ قالوا: لا، فسكت، ثم قال: ألا أحد يبلغ فيسقينا ماء، فبلغ ذلك عليّاً، فبعث إليه بثلاث قرب مملؤة، فما كادت تصل إليه وجرح في سببها عدّة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه، فبلغ عليّاً أن عثمان يراد قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان فلا، وقال للحسن وللحسين: إذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحداً يصل إليه، وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه، وبعث عدّة من أصحاب محمد أبناءهم، يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان، ويسألونه إخراج مروان»(2).
بقي أن نذكر:
إن عمرو بن العاص لمّا أقام بالمدينة، أنكحه عثمان أخته لاُمّه: أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط، إلا أن ذلك لم يزل حقده على عثمان لأنه نزعه عن مصر، ولذا، لمّا قام الناس ضدّ عثمان دخل عليه نفر من قومه فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن عمراً هو الذي أغرى بك. فأخرجه عثمان، فطلّق عمرو امرأته، ونزل السبع من أرض فلسطين، فقال عمرو حين أخرج:
لنخضب لحية غدرت وخانت *** بأحمر من دماء الخوف قانِ
ولمّا بلغه قتل عثمان قال: قد علمت العرب أني إذا حككت قرحةً أدميتها(3).
(1) نقلنا أخباره عن: تاريخ دمشق 29 / 19 ـ 24، الكامل في التاريخ 3 / 88 ، سير أعلام النبلاء 3 / 33، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 157 وغيرها.
(2) تاريخ دمشق 39 / 415 ـ 418.
(3) تاريخ دمشق 39 / 420، 422، 426.