1 ـ الأخذ بالسياق.
2 ـ الأحاديث المروية في قبال حديث نزولها في أميرالمؤمنين يوم الغدير.
ولا بُدّ قبل الدخول في البحث من أن نعلم بأنّ الآية المباركة من سورة المائدة، وأنّ هذه السورة هي آخر ما نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم باتّفاق الفريقين.
فلاحظ: تفسير القرطبي، وتفسير الخازن، والإتقان في علوم القرآن 1 / 26 ـ 52، وغيرها من كتب العامّة.
وفي تهذيب الأحكام لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي ـ بسند صحيح عن أميرالمؤمنين عليه السلام، أنّها نزلت قبل أن يقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بشهرين أو ثلاثة(1).
وقال العيّاشي في تفسيره: إنّها آخر ما نزل من القرآن.
وحينئذ نقول: كما جعل الأوّلون آية التطهير ضمن آيات زوجات النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، واتّخذ أتباعهم ذلك أساساً للقول بنزولها في الزوجات، كذلك الحال في آية التبليغ، فقد وضعت في سياق آيات الكلام مع اليهود والنصارى، ثمّ جاء اللاّحقون واستندوا إلى سياق الآية فراراً من الإذعان للحقيقة:
قال الرازي: «إعلم أنّ هذه الروايات وإن كثرت، إلاّ أنّ الأَولى حمله على أنّه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأنّ ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير، لمّا كان كلاماً مع اليهود والنصارى، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة عمّا قبلها وما بعدها»(2).
وكأنّ الرازي قد غفل عن أنّ الآية في سورة المائدة، وهي إنّما نزلت في أُخريات حياة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، حين لم يكن يهاب اليهود ولا النصارى ولا قريشاً، وأنّ السياق إنّما يكون قرينةً إذا لم يكن في مقابله نصّ معتبر، وقد صرّح الفخر الرازي نفسه بأنّ نزول الآية في فصل أميرالمؤمنين عليه السلام هو قول ابن عبّاس والبَراء بن عازب والإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام، في حين أنّه لم يعضّد القول الذي حمل الآية عليه ـ ولا غيره من الأقوال التي ذكرها ـ بقول أيّ أحد من الصحابة.
وأمّا الأحاديث التي يروونها في المقام في مقابلة حديث نزول الآية المباركة في الإمام عليه السلام، فإن شئت الوقوف عليها فراجع تفسير الطبري والدرّ المنثور للسيوطي ـ ولعلّ الثاني هو أجمع الكتب لها ـ وستجدها متناقضة فيما بينها، فضلا عن كونها مردودة بإجماع الفريقين على نزول سورة المائدة في الأيّام الأخيرة من حياة الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
فمن ذلك ما أخرجه الطبراني وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر، عن ابن عبّاس، قال: «كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يُحرس، وكان يرسل معه عمّه أبو طالب كلّ يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه.
فقال: يا عمّ! إنّ اللّه قد عصمني، لا حاجة لي إلى من تبعث».
أورده السيوطي في ذيل الآية المباركة، وهو ـ إن كان له علاقة بنزول الآية المباركة ـ خبر مكذوب ; لأنّه يفيد نزولها في مكّة، وهو قول مردود بالإجماع.
وما أخرجه ابن مردويه والضياء في المختارة، عن ابن عبّاس، قال: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: أيّ آية أُنزلت من السماء أشدّ عليك؟ فقال: كنت بمنى أيّام موسم، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم، فنزل علَيَّ جبرئيل فقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيّها الناس! من ينصرني على أن أُبلّغ رسالة ربّي ولكم الجنّة؟
أيّها الناس! قولوا: لا إله إلاّ اللّه وأنا رسول اللّه إليكم، تنجحوا ولكم الجنّة.
قال: فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلاّ يرمون علَيّ بالتراب والحجارة، ويبصقون في وجهي، ويقولون: كذّاب صابىء! فعرض علَيّ عارض فقال: يا محمّد! إن كنت رسول اللّه فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك.
فقال النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: اللّهمّ اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك.
فجاء العبّاس عمّه فأنقذه منهم وطردهم عنه.
قال الأعمش: فبذلك تفتخر بنو العبّاس، ويقولون: فيهم نزلت (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) هوى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أبا طالب، وشاء اللّه عبّاس بن عبد المطّلب».
قلت:
وآيات الكذب على هذا الحديث لائحة.
ومن الأحاديث المذكورة في ذيل الآية: أحاديث أنّ أصحابه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كانوا دائماً يحرسونه، حتّى نزلت الآية المباركة ففرّقهم:
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: «لمّا نزلت (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) إلى قوله: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لا تحرسوني! إنّ ربّي قد عصمني».
وأخرج ابن جرير وابن مردويه، عن عبداللّه بن شقيق، قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يتعقّبه ناس من أصحابه، فلمّا نزلت (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فخرج فقال: أيّها الناس! الحقوا بملاحقكم، فإنّ اللّه قد عصمني من الناس».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ، عن محمّد بن كعب القرظي، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما زال يُحرس، يحارسه أصحابه، حتّى أنزل اللّه (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)فترك الحرس حين أخبره أنّه سيعصمه من الناس.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عن أبي ذرّ، قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لا ينام إلاّ ونحن حوله من مخافة الغوائل، حتّى نزلت آية العصمة: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)».
وأخرج الطبراني وابن مردويه، عن عصمة بن مالك الخطمي، قال: «كنّا نحرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالليل حتّى نزلت (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)فترك الحرس».
قلت:
وهذه الأحاديث ليس فيها ذكر سبب نزول الآية، ولا تعارض حديث نزولها يوم الغدير في عليٍّ عليه السّلام.
وبهذه الأحاديث يردّ ما زعموا من نزولها في أعرابي أراد قتله وهو نائم تحت شجرة، ورووا فيه حديثاً عن محمّد بن كعب القرظي، مع ما هنالك من قرائن الكذب!
وممّا ذكره القوم في ذيل الآية ما جاء في تفسير أبي الحسن الواحدي: «وقال الأنباري: كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يجاهر ببعض القرآن أيّام كان يمكّة، ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من شرّ المشركين إليه وإلى أصحابه»(3).
وهذا كذب بلا شك ولا ريب! لكنّ العجيب أن ينسب هذا القول إلى الإماميّة، كما في تفسير القرطبي، حيث قال: «وقبّح اللّه الروافض حيث قالوا: إنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كتم شيئاً ـ ممّا أوحى اللّه إليه ـ كان بالناس حاجة إليه»(4)، وكما في شرح القسطلاني: «قالت الشيعة: إنّه قد كتم أشياء على سبيل التقيّة»(5).
فانظر كيف يفترون على اللّه والرسول، ثمّ لمّا التفتوا إلى قبحه نسبوه زوراً وبهتاناً إلى غيرهم.. وكم له من نظير!! وإلى اللّه المشتكى، وهو المستعان.
قلت:
وثمّة أحاديث يروونها بتفسير الآية المباركة غير منافية للصحيح في سبب نزولها، إنْ لم نقل بجواز الاستدلال بها كذلك، باحتمال أنّ الراوي لم تسمح له الظروف بالتصريح بنزولها في يوم الغدير، أو صرّح وحُرّف لفظه، كالحديث التالي:
أخرج أبو الشيخ، عن الحسن: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، قال: إنّ اللّه بعثني برسالة، فضقت بها ذرعاً وعرفت أنّ الناس مكذّبيّ، فوعدني لأُبلغنّ أو ليعذّبني، فأنزل: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)».
والحديث: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: «لمّا نزلت: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)، قال: يا ربّ! إنّما أنا واحد كيف أصنع؟! يجتمع عليّ الناس! فنزلت: (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)».
هذا موجز الكلام على هذه الآية، وبه الكفاية لمن أراد الهداية، واللّه وليّ التوفيق.
(1) تهذيب الأحكام 1 / 361.
(2) تفسير الرازي 12 / 50.
(3) التفسير الوسيط 2 / 208.
(4) تفسير القرطبي 6 / 157.
(5) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 10 / 210.