فتراهم يعترفون بأن قائل الكلمة هو عمر، ونسبة الهجر إليه صلّى اللّه عليه وآله غير جائز، لأنه إنكار لعصمته، وإنكارها ردّ على القرآن لدلالته عليها بكلّ وضوح، وإنكار لنبوّته، فما الحيلة حينئذ؟
فبعضهم قال: إن «هجر» هو على الإستفهام، فهمزة الإستفهام مقدّرة، وهو إنكاري لا حقيقي… .
وبعضهم، قدّر الهمزة، وضبط الكلمة بضم الهاء وسكون الجيم والراء، على أنه مصدر.
وبعضهم ـ لما رأى أن تقدير الهمزة خلاف الأصل، وحمل الكلام على الإستفهام الإنكاري خلاف الظاهر ـ أضاف إلى اللفظ همزة الإستفهام.
وبعضهم أراد التأكيد على ذلك فأضاف كلمة: «استفهموه».
وبعضهم لم يقتنع بهذه التصرّفات، فوضع «غلب عليه الوجع» في مكان: «هجر».
وقد تقدّم ما يشهد على بعض هذه التصرّفات، وإليك الشاهد على البعض الآخر:
قال ابن حجر بشرح البخاري: «قوله: فقالوا ما شأنه أهجر، بالهمزة لجميع رواة البخاري. وفي الرواية التي في الجهاد بلفظ فقالوا: هجر بغير همزة، ووقع للكشميهني هناك فقالوا هجر هجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أعاد هجر مرتين. قال عياض: معنى أهجر أفحش يقال: هجر الرجل إذا هذى وأهجر إذا أفحش. وتعقّب بأنه يستلزم أن يكون بسكون الهاء والروايات كلّها إنما هي بفتحها. وقد تكلّم عياض وغيره على هذا الموضع فأطالوا، ولخّصه القرطبي تلخيصاً حسناً ثم لخّصته من كلامه وحاصله:
أن قولهم هجر، الراجح فيه إثبات همزة الإستفهام وبفتحات على أنّه فعل ماض، قال، لبعضهم أهجر بضم الهاء وسكون الجيم والتنوين على أنه مفعول بفعل مضمر، أي أقال هجر. والهجر بالضم ثم السكون الهذيان. والمراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يعتدّ به لعدم فائدة، ووقوع ذلك من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مستحيل، لأنه معصوم في صحّته ومرضه، لقوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى)ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: إني لا أقول في الغضب والرضى إلاّ حقّاً. واذا عرف ذلك، فإنما قاله من قاله منكراً على من توقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة، فكأنه قال كيف تتوقف؟ أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟ امتثل أمره وأحضر ما طلب فإنه لا يقول إلا الحق. قال: هذا أحسن الأجوبة. قال: ويحتمل أن بعضهم قال ذلك من شك عرض له، ولكن يبعد أن لا ينكره الباقون عليه مع كونهم من كبار الصحابة، ولو أنكروه عليه لنقل. ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيراً منهم عند موته. وقال غيره: يحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتدّ وجعه وأطلق اللاّزم وأراد الملزوم، لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ عن شدّة وجعه… .
قلت: ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي، ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أن من يشتدّ عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله، لجواز وقوع ذلك. ولهذا وقع في الرواية الثانية: فقال بعضهم: أنه قد غلب عليه الوجع. ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن خلاد عن سفيان في هذا الحديث: قالوا ما شأنه يهجر؟ استفهموه. وعند ابن سعد من طريق أخرى عن سعيد بن جبير أن نبي اللّه يهجر»(1).
وقال العيني في شرح البخاري:
«وفي كتاب الجهاد هجر بدون الهمزة. وفي رواية الكشميهني هناك هجر هجر رسول اللّه بتكرار لفظ هجر. وقال عياض: معنى هجر أفحش، ويقال هجر الرجل إذا هذى وأهجر إذا أفحش.
قلت: نسبة مثل هذا إلى النبي لا يجوز، لأن وقوع مثل هذا الفعل عنه عليه الصّلاة والسلام مستحيل، لأنه معصوم في كلّ حاله في صحته ومرضه لقوله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ولقوله: إنى لا أقول في الغضب والرضا إلاّ حقّاً. وقد تكلّموا في هذا الموضع كثيراً وأكثره لا يجدي نفعاً. والذي ينبغي أن يقال: إن الذين قالوا ما شأنه أهجر أو هجر بالهمزة وبدونها، هم الذين كانوا قريبي العهد بالإسلام ولم يكونوا عالمين بأن هذا القول لا يليق أن يقال في حقه عليه السلام، لأنهم ظنوا أنه مثل غيره من حيث الطبيعة البشرية، إذا اشتد الوجع على واحد منهم تكلّم من غير تحرّ في كلامه»(2).
وقال ابن الأثير في مادة هجر: «ومنه حديث مرض النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا: ما شأنه؟ أهجر؟ أي: اختلف كلامه بسبب المرض، على سبيل الإستفهام، أي: هل تغير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض. وهذا أحسن ما يقال فيه، ولا يجعل إخبار فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان، والقائل كان عمر ولا يظنّ به ذلك»(3).
وقال النووي بشرح صحيح مسلم:
«أهجر، أي: اختلف كلامه بسبب المرض، على الإستفهام، أي: هل تغيّر كلامه واختلط لأجل ما به من المرض. ولا يجعل إخباراً فيكون من الفحش والهذيان. والقائل عمر، ولا يظنّ به ذلك»(4).
وقال القاضي الخفاجي بشرح الشفاء:
«وأما الاختلاف الذي وقع عنده، كما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال في مرضه: ائتوني بدواة أكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعدي، فقال عمر: إنّ الرجل ليهجر حسبنا كتاب اللّه، فلغط الناس، فقال: اخرجوا عني، لا ينبغي التنازع لديّ. فقال ابن عباس: الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللّه. وهذا مما يطعن به الرافضة على عمر. وقال صاحب الملل والنحل: هو أوّل اختلاف في وقع في الإسلام»(5).
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8 / 101.
(2) عمدة القاري في شرح البخاري 18 / 62.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر «هجر» 5 / 246، شرح الشفا للقاري ـ على هامش نسيم الرياض ـ 4 / 278.
(4) شرح صحيح مسلم. انظر: تشييد المطاعن 2 / 411.
(5) نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض 4 / 278 وفيه تحريف.