أقول:
وفي هذا الموضع أيضاً لا تخلو كلماتهم من التهافت كما سيتّضح، وهي تتلخص في ثلاثة وجوه، أهمها الطعن في الخبر سنداً، بل لقد كذّب به ابن تيمية صراحةً. ونحن نورد النصّ الكامل للخبر بسنده عند أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ثم نذكر أسماء عدّة آخرين من رواته في الكتب المختلفة، وبعد ثبوت الخبر والوقوف على متنه الكامل، لا تبقى قيمةٌ للمكابرات في معناه ومدلوله، وإن كنّا سنتعرّض لها حيث يذكر العلاّمة الخبر مرةً أخرى في فصل أن من تقدّمه لم يكن إماماً… فانتظر. وهذا نصّ الخبر بسنده كما رواه الطبري حيث قال:
«حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكير، قال: حدّثنا الليث بن سعد، قال: حدّثنا علوان، عن صالح بن كيسان، عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، أنه دخل على أبي بكر الصدّيق رضي اللّه تعالى عنه في مرضه الذي توفّي فيه; فأصابه مهتمّاً.
فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد للّه بارئاً!
فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: أتراه؟
قال: نعم.
قال: إني ولّيت أمركم خيركم في نفسي; فكلّكم ورم أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر له دونه; ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذري; كما يألم أحدكم أن ينام على حسك; واللّه لأن يقدّم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدّ خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أوّل ضالّ بالناس غداً، فتصدّونهم عن الطريق يميناً وشمالاً. يا هادي الطريق، إنما هو الفجر أو البجر.
فقلت له: خفّض عليك رحمك اللّه; فإن هذا يهيضك في أمرك. إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك، وصاحبك كما تحب; ولا نعلمك أردت إلاّ خيراً، ولم تزل صالحاً مصلحاً، وأنك لا تأسى على شيء من الدنيا.
قال أبو بكر رضي اللّه عنه: أجل، إنى لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهنّ وددت أني تركتهنّ، وثلاث تركتهنّ وددت أني فعلتهنّ; وثلاث وددت أني سألت عنهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
فأما الثلاث اللاّتي وددت أني تركتهنّ; فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب، ووددت أني لم أكن حرّقت الفجاءة السّلمي، وأني كنت قتلته سريحاً أو خلّيته نجيحاً. ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميراً; وكنت وزيراً.
وأما اللاّتي تركتهنّ; فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنه تخيّل إليّ أنه لا يرى شرّاً إلا أعان عليه. ووددت أني حين سيّرت خالد بن الوليد إلى أهل الردّة; كنت أقمت بذي القصّة; فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدداً. ووددت أني كنت إذ وجّهت خالد بن الوليد إلى الشام، كنت وجّهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل اللّه ـ ومدّ يديه ـ .
ووددت أني كنت سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد، ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة; فإن في نفسي منهما شيئاً.
قال لي يونس: قال لنا يحيى: ثم قدم علينا علوان بعد وفاة اللّيث، فسألته عن هذا الحديث، فحدّثني به كما حدثني اللّيث بن سعد حرفاً حرفاً; وأخبرني أنه هو حدّث به اللّيث بن سعد، وسألته عن اسم أبيه، فأخبرني أنه علوان بن داود.
وحدّثني محمد بن إسماعيل المرادي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالح المصري، قال: حدّثني الليث، عن علوان بن صالح، عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف، أن أبا بكر الصدّيق رضي اللّه عنه قال ـ ثم ذكر نحوه، ولم يقل فيه: «عن أبيه»(1).
(1) تاريخ الطبري 2 / 619 ـ 620.