وفي بعض الألفاظ بدل: «إن النبي قد غلب عليه الوجع» جملة: «هجر رسول اللّه»، فقد أخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس؟» ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء فقال: «اشتدّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجعه يوم الخميس، فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: «هجر رسول اللّه قال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه. وأوصى عند موته بثلاث: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، (قال): ونسيت الثالثة».
وهذا الحديث أخرجه مسلم أيضاً في آخر كتاب الوصايا من صحيحه.
وأحمد من حديث ابن عباس في مسنده، ورواه سائر المحدّثين.
وأخرج مسلم في كتاب الوصايا من الصحيح عن سعيد بن جبير من طريق آخر عن ابن عباس، قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس» ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خدّيه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: ائتوني بالكتف والدّواة أو اللّوح والدواة، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً. فقالوا: إن رسول اللّه يهجر».
ويظهر من التأمل في الأخبار أن قائل «هَجَرَ» هو عمر بن الخطاب ثم تبعه من تبعه من الحاضرين.
وقد تقدّم في الحديث الصحيح عن ابن عباس قوله: فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر ـ أي يقول: هجر رسول اللّه.
وفي رواية أخرجها الطبراني في الأوسط عن عمر قال: «لمّا مرض النبي قال: ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً. فقال النسوة من وراء الستر: ألا تسمعون ما يقول رسول اللّه؟ قال عمر: فقلت: أنكن صواحبات يوسف، إذا مرض عصرتن أعينكن وإذا صح ركبتن عنقه؟ قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «دعوهن فإنهن خير منكم».
هذا، وقد جاء التصريح في كلام بعض الأعلام، بأن قائل ذلك هو عمر.
فقد أخرج أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة بالإسناد إلى ابن عباس، قال: «لما حضرت رسول اللّه الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال رسول اللّه: ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده، قال: فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول اللّه ثم قال: عندنا القرآن حسبنا كتاب اللّه. فاختلف من في البيت واختصموا، فمن قائل يقول: القول ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ومن قائل يقول: القول ما قال عمر، فلما أكثروا اللّغط واللّغو والاختلاف، غضب صلّى اللّه عليه وآله فقال: قوموا…»(1).
وقال أبو حامد الغزالي: «ولمّا مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال قبل موته: إيتوني بدواة وبياض لاُزيل عنكم إشكال الأمر، وأذكر لكم من المستحقّ لها بعدي، فقال عمر: دعوا الرجل فإنه ليهجر وقيل يهذو»(2).
وسيأتي كلام ابن الأثير في كتاب (النهاية).
وقال العكبري في (التبيان ـ شرح ديوان المتنبّي) بشرح قول المتنبّي:
أنطق فيك هجراً بعد علمي *** بأنك خير من تحت السماء
قال: «الهجر، القبيح من الكلام والفحش، وهجر إذا هذى، وهو ما يقوله المحموم عند الحمّى. ومنه قول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عند مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إن الرجل ليهجر، على عادة العرب».
وقال يوسف الأعور الواسطي في رسالته في الردّ على الشيعة:
«وأمّا ما ذكروه في عمر. فمنها قولهم: إنه منع كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الذي أراد أن يكتبه في مرض موته وقال: إن الرجل ليهجر» فأجاب:
«فأما: إن الرجل ليهجر، يعني كلامه حينئذ أي في مرضه خارج عن حدّ الصحّة، يعني من جهة الكثرة والعلّة ونحو ذلك، لاحتمال السّهو عليه من إشغال المرض القلب الذي هو وعاء للإيعاء، ومثل ذلك واقع للبشر في حال المرض، للأنبياء وغيرهم. وقد وقع منه صلّى اللّه عليه وسلّم السّهو في حال الصحة، كحديث ذي اليدين في تسليمه من صلاة العصر على ركعتين. فالسّهو في المرض أقرب احتمال»(3).
وقال الخفاجي: «وفي بعض طرقه ـ أي طرق هذا الحديث ـ المرويّة عنه قال عمر: «إن النبي يهجر. بفتح أوله وضم ثالثه، أي: يأتي بهجر من القول. وهو على تقدير الإستفهام الإنكاري، وليس من الهجر بمعنى ترك الكتابة والإعراض عنها كما قيل.
وهذه رواية الإسماعيلي من طريق ابن خلاد عن سفيان.
وفي رواية ـ كما في البخاري ـ هجر، ماض بدون استفهام»(4).
(1) شرح نهج البلاغة 6 / 51 .
(2) سرّ العالمين وكشف ما في الدارين: 21.
(3) الرسالة المعارضة في الرد على الرافضة ـ مخطوط.
(4) نسيم الرياض ـ شرح شفاء القاضي عياض 4 / 278.