إلا أنهم يحاولون الدفاع عن عمر كسائر الموارد بالتأويلات والاحتمالات.
ولعلّ أقوى احتمالاتهم أنه كان جاهلاً بحالها… لكن لفظ الحديث في مصادرهم يأبى هذا التوجيه، ففي رواية أبي داود: «عن ابن عباس قال: أتي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناساً، فأمر بها عمر أن ترجم، فمرّ بها علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها أن ترجم. قال فقال: ارجعوا بها. ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرء…».
لأنّ في هذا الحديث قرائن على علمه بحالها:
الأولى: إنه لو كان جاهلاً بحالها ـ وهو يعلم بحكم الحدّ في الزّنا ـ لما شاور الصحابة فيها، بل حكم بإجراء الحدّ عليها.
والثانية: قول الناس، إنها مجنونة بني فلان، يشهد بكون جنونها معلوماً ومشهوراً بين الناس، فجهل عمر بحالها حينئذ بعيد جدّاً.
والثالثة: قول الإمام عليه السلام لعمر: أما علمت… فإنه شاهد علمه بحالها وإلا لقال له بدل ذلك: أما علمت إنها مجنونة بني فلان… .
ووجه آخر ذكره أبو سليمان الخطابي إذ قال بعد الحديث المزبور:
«قلت: لم يأمر عمر برجم مجنونة مطبق عليها في الجنون، ولا يجوز أن يخفى هذا ولا على أحد ممن بحضرته، ولكن هذه المرأة كانت تجنّ مرّة وتفيق أخرى، فرأى عمر أن لا يسقط عنها الحدّ لما يصيبها من الجنون، إذ كان الزنا منها في حال الإفاقة، ورأي علي كرّم اللّه وجهه أن الجنون شبهة يدرء بها الحدّ عمّن يبتلي به، والحدود تدرء بالشبهات، لعلّها قد أصابت ما أصابت وهي في بقية من بلائها، فوافق اجتهاد عمر اجتهاده في ذلك، فدرأ عنها الحدّ. واللّه أعلم بالصواب»(1).
إذن، كان يعلم بجنونها، فمن دافع عنه بأنه لم يكن يعلم فقد كابر.
لكن هذا الحمل أيضاً مردود، فليس في الحديث أقلّ شاهد عليه، بل قول الناس: «هذه مجنونة بني فلان» ظاهر في كون جنونها مطبقاً. وأيضاً قول الإمام عليه السلام: أما علمت… ظاهر في ذلك… وأيضاً: لو كان اجتهاد عمر ذلك وكان له وجه، لم يكن لقوله: «لولا علي لهلك عمر» معنى، لأنّ مثل هذا الكلام متضمّن للإقرار بالخطأ والإشتباه.
وعلى الجملة، فإنّ الإقرار بجهل عمر وخطئه ـ كما اضطرّ إليه بعضهم ـ أولى من هذه التوجيهات الباردة، ومن أنكر أصل القضيّة منهم فقد أراد الفرار من هذا الإقرار.
(1) معالم السنن 3 / 267.