وفي المواقف:
«المقصد الخامس: في أفضل الناس بعد رسول اللّه.
هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة: أبو بكر رضي اللّه عنه.
وعند الشيعة وأكثر متأخّري المعتزلة: علي.
لنا وجوه:
الأوّل: قوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى * الَّذي يُؤْتي مالَهُ يَتَزَكّى).
قال أكثر المفسرين ـ واعتمد عليه العلماء ـ : إنها نزلت في أبي بكر، فهو أكرم عند اللّه لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ) وهو الأفضل. وأيضاً: فقوله: (وَما لاَِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزى) يصرفه عن علي، إذ عنده نعمة التربية وهي نعمة تجزى.
الثاني: قوله عليه السلام: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) عمم الأمر فيدخل في الخطاب علي، وهو يشعر بالأفضلية، إذ لا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالإقتداء سيما عندهم.
الثالث: قوله عليه السلام لأبي الدرداء: (واللّه ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر).
الرابع: قوله عليه السلام لأبي بكر وعمر: (هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين).
الخامس: قوله عليه السلام: (ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدّم عليه غيره).
السادس: تقديمه في الصلاة، مع أنها أفضل العبادات، وقوله: (يأبى اللّه ورسوله إلا أبا بكر).
السابع: قوله عليه السلام: (خير أمتي أبو بكر ثم عمر).
الثامن: قوله عليه السلام: (لو كنت متخذاً خليلاً دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن هو شريكي في ديني، وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار، وخليفتي في أمتي).
التاسع: قوله عليه السلام: (وأين مثل أبي بكر؟ كذّبتي الناس وصدّقني وآمن بي، وزوّجني ابنته، وجهّزني بماله، وواساني بنفسه، وجاهد معي ساعة الخوف).
العاشر: قول علي رضي اللّه عنه: (خير الناس ـ بعد النبيين ـ أبو بكر ثم عمر ثم اللّه أعلم. وقوله إذ قيل له ما توصي؟ ما أوصى رسول اللّه حتى أوصي، ولكن إن أراد اللّه بالناس خيراً جمعهم على خيرهم كما جمعهم ـ بعد نبيهم ـ على خيرهم.
لهم فيه مسلكان.
المسلك الأوّل: ما يدلّ عليه إجمالاً. وهو وجوه:
الأوّل: آية المباهلة. وجه الاحتجاج: أن قوله: (وَأَنْفُسَنا) لم يرد به نفس النبي، بل المراد به علي، دلّت عليه الأخبار الصحيحة، وليس نفس علي نفس محمّد، فالمراد المساواة، فترك العمل به في فضيلة النبوّة وبقي حجة في الباقي.
وقد يمنع أن المراد علي، بل جميع قراباته وخدمه داخلون فيه، يدلّ عليه صيغة الجمع.
الثاني: خبر الطير، وهو قوله: اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فأتى علي. والمحبة من اللّه كثرة الثواب والتعظيم.
وأجيب: بأنه لا يفيد كونه أحبّ إليه في كلّ شيء، لصحّة التقسيم وإدخال لفظ الكلّ والبعض.
الثالث: قوله عليه السلام في ذي الثدية: (يقتله خير الخلق)، وقد قتله علي.
وأجيب: بأنه ما باشر قتله، فيكون من باشره من أصحابه خيراً منه، وأيضاً فمخصوص بالنبي، ويضعّف حينئذ عمومه للباقي.
الرابع: قوله عليه السلام: (أخي ووزيري وخير من أتركه بعدي يقضي ديني، وينجز وعدي، علي بن أبي طالب).
وأجيب: بأنه يدلّ على أنه خير من يتركه قاضياً ومنجزاً، فلا يتناول الكلّ.
الخامس: قوله عليه السلام لفاطمة: (أما ترضين أني زوّجتك من خير أمتي؟).
وأجيب: بأنه لا يلزم كونه خيراً من كلّ وجه، ولعلّ المراد خيرهم لها.
السادس: قوله عليه السلام: (خير من أتركه بعدي علي).
وأجيب: بما مر.
السابع: قوله عليه السلام: (أنا سيّد العالمين، وعلي سيّد العرب).
أجيب: بأن السيادة الارتفاع لا الأفضلية، وإن سلّم فهو كالخبر لا عموم له.
الثامن: قوله عليه السلام لفاطمة: (إن اللّه اطلع على أهل الأرض واختار منهم أباك فاتّخذه نبياً; ثم اطلع ثانية واختار منهم بعلك).
وأجيب: بأنه لا عموم فيه، فلعلّه أختاره للجهاد، أو لبعليّة فاطمة.
التاسع: أنه عليه السلام لما آخى بين الصحابة، اتّخذه أخاً لنفسه.
قيل: لا دلالة، إذ لعلّ ذلك لزيادة شفقته عليه للقرابة وزيادة الألفة والخدمة.
العاشر: قوله عليه السلام بعد ما بعث أبا بكر وعمر إلى خيبر فرجعا منهزمين: «لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله كراراً غير فرار» وأعطاها عليّاً. وذلك يدلّ على أن ما وصفه به لم يوجد في غيره.
فقيل: نفي المجموع لا يجب أن يكون بنفي كلّ جزء منه، بل يجوز أن يكون بنفي كونه كراراً غير فرار، ولا يلزم حينئذ الأفضلية مطلقاً.
الحادي عشر: قوله تعالى في حق النبي: (فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْريلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنينَ)، والمراد بصالح المؤمنين علي، كما نقله كثير من المفسرين.
فقيل: معارض بما عليه الأكثر من العموم، وقوم: من أن المراد أبو بكر وعمر.
الثاني عشر: قوله عليه السلام: «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى ابن أبي طالب»; فقد ساواه بالأنبياء، وهم أفضل من سائر الصحابة إجماعاً.
وأجيب: بأنه تشبيه ولا يدلّ على المساواة، وإلاّ كان على أفضل من الأنبياء، لمشاركته لكلّ في فضيلته، واختصاصه بفضيلة الآخرين; والإجماع على أن الأنبياء أفضل من الأولياء.
المسلك الثاني: ما يدلّ عليه تفصيلاً: وهو أن فضيلة المرء على غيره إنما تكون بماله من الكمالات، وقد اجتمع في علي منها ما تفرّق في الصحابة، وهي أمور:
الأوّل: العلم، وعلي أعلم الصحابة.
لأنه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلّم; ومحمّد صلّى اللّه عليه وسلّم أعلم الناس وأحرصهم على إرشاده; وكان في صغره في حجره، وفي كبره ختناً له، يدخل عليه كلّ وقت; وذلك يقتضي بلوغه في العلم كلّ مبلغ. وأما أبو بكر، فاتصل بخدمته في كبره وكان يصل إليه في اليوم مرّة أو مرّتين.
ولقوله عليه السلام: «أقضاكم علي» والقضاء يحتاج إلى جميع العلوم، فلا يعارضه نحو: (أفرضكم زيد، وأقرؤكم أُبي).
ولقوله تعالى: (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)، وأكثر المفسرين على أنه علي.
ولأنه نهى عمر عن رجم من ولدت لستة أشهر، وعن رجم الحاملة، فقال عمر (لولا علي لهلك عمر).
ولقول علي: (لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم; واللّه ما من آية نزلت في بر، أو بحر، أو سهل، أو جبل، أو سماء، أو أرض، أو ليل، أو نهار، إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وفي أيّ شيء نزلت).
ولأن عليّاً ذكر في خطبته من أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر ما لم يقع مثله في كلام الصحابة.
ولأن جميع الفرق ينتسبون إليه في الأصول والفروع، وكذا المتصوفة في علم تصفية الباطن، وابن عباس رئيس المفسرين تلميذه، وكان في الفقه والفصاحة في الدرجة القصوى، وعلم النحو إنما ظهر منه، وهو الذي أمر أبا الأسود الدؤلي بتدوينه، وكذا علم الشجاعة وممارسة الأسلحة، وكذا علم الفتوة والأخلاق.
الثاني: الزهد، اشتهر عنه أنه ـ مع اتساع أبواب الدنيا عليه ـ ترك التنعم وتخشن في المآكل والملابس، حتى قال للدنيا: (طلّقتك ثلاثاً).
الثالث: الكرم، كان يؤثر المحاويج على نفسه وأهله، حتى تصدّق في الصّلاة بخاتمه، ونزل ما نزل، وتصدّق في ليالي صيامه المنذور بما كان فطوره، ونزل فيه (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكينًا وَيَتيمًا وَأَسيرًا).
الرابع: الشجاعة، تواتر مكافحته للحروب ولقاء الأبطال وقتل أكابر الجاهليّة، حتى قال عليه السلام يوم الأحزاب: (لضربة علي خير من عبادة الثقلين)، وتواتر وقائعه في خيبر وغيره.
الخامس: حسن خلقه، حتى نسب إلى الدعابة.
السادس: مزيد قوّته، حتى قلع باب خيبر بيده، وقال: (ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية، لكن بقوة إلهية).
السابع: نسبه وقربه من الرسول نسباً ومصاهرة، وهو غير خفي. وعباس وإن كان عمّ النبيّ عليه السلام، لكن كان أخا عبداللّه من الأب، وأبو طالب أخاه من الأب والأم.
الثامن: اختصاصه بصاحبة كفاطمة، وولدين كالحسن والحسين، وهما سيّدا شباب أهل الجنة، ثم أولاد أولاده، ممن اتفق الأنام على فضلهم على العالمين حتى كان أبو يزيد سقاء في دار جعفر الصادق رضي اللّه عنه، ومعروف الكرخي بوّاب دار علي بن موسى الرضا.
والجواب عن الكلّ: أنه يدلّ على الفضيلة، وأما الأفضليّة فلا، كيف ومرجعها إلى كثرة الثواب!! وذلك يعود إلى الاكتساب والإخلاص وما يعود إلى نصرة الإسلام ومآثرهم في تقوية الدين.
واعلم: أن مسألة الأفضلية لا مطمع فيها في الجزم واليقين، وليست مسألة يتعلّق بها عمل فيكتفى فيها بالظن; والنصوص المذكورة من الطرفين ـ بعد تعارضها ـ لا تفيد القطع، على ما لا يخفى على منصف; لكنا وجدنا السلف قالوا: بأن الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي; وحسن ظننا بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوا ذلك، لما أطبقوا عليه، فوجب علينا اتباعهم في ذلك، وتفويض ما هو الحق فيه إلى اللّه»(1).
(1) المواقف في علم الكلام: 407 ـ 412.