وفي شرح المقاصد:
«لمّا ذهب معظم أهل السنّة، وكثير من الفرق على أنه يتعيّن للإمامة أفضل أهل العصر إلا إذا كان في نصبه مرج وهيجان فتن، احتاجوا إلى بحث الأفضليّة، فقال أهل السنّة: الأفضل أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. وقد مال البعض منهم إلى تفضيل علي رضي اللّه عنه على عثمان، والبعض إلى التوقف فيما بينهما.
قال إمام الحرمين: مسألة امتناع إمامة المفضول ليست بقطعيّة، ثم لا قاطع شاهد من العقل على تفضيل بعض الأئمة على البعض، والأخبار الواردة على فضائلهم متعارضة، لكن الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل، ثم عمر. ثم يتعارض الظنون في عثمان وعلي رضي اللّه عنهما.
وذهب الشيعة وجمهور المعتزلة إلى أن الأفضل بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم علي رضي اللّه عنه.
لنا إجمالاً: أن جمهور عظماء الملّة وعلماء الأمة أطبقوا على ذلك، وحسن الظن بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوه بدلائل وأمارات لما أطبقوا عليه.
وتفصيلاً: الكتاب، والسنة، والأثر، والأمارات.
أمّا الكتاب، فقوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى * الَّذي يُؤْتي مالَهُ يَتَزَكّى * وَما لاَِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزى).
فالجمهور على أنها نزلت في أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه، والأتقى أكرم، لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ). ولا يعني بالأفضل إلا الأكرم.
وليس المراد به عليّاً، لأن للنبي صلّى اللّه عليه وسلم عنده نعمة تجزى، وهي نعمة التربية.
وأمّا السنة، فقوله عليه السلام: اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر.
دخل في الخطاب علي رضي اللّه عنه فيكون مأموراً بالاقتداء ولا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء، سيّما عند الشيعة.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم لأبي بكر وعمر: هما سيّدا كهول أهل الجنّة ما خلا النبيين والمرسلين.
وقوله عليه السلام: خير أمتي أبو بكر ثم عمر.
وقوله عليه السلام: ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدّم عليه غيره.
وقوله صلّى اللّه عليه وآله: لو كنت متخذاً خليلاً دون ربّي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن هو شريك في ديني وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار، وخليفتي في أمتي.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: وأين مثل أبي بكر، كذّبني الناس وصدّقني، وآمن بي وزوّجني ابنته، وجهز لي بماله، واساني بنفسه، وجاهد معي ساعة الخوف.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم لأبي الدرداء حين كان يمشي أمام أبي بكر: أتمشي أمام من هو خير منك؟ واللّه ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر.
ومثل هذا الكلام وإن كان ظاهره نفي أفضليّة الغير، لكن إنما يساق لإثبات أفضليّة المذكور. ولهذا أفاد أن أبا بكر أفضل من أبي الدرداء. والسرّ في ذلك أن الغالب من حال كلّ اثنين هو التفاضل دون التساوي، فإذا نفى أفضلية أحدهما لآخر، ثبت أفضلية الآخر، وبمثل هذا ينحلّ الإشكال المشهور على قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «من قال حين يصبح وحين يمسي: «سبحان اللّه وبحمده» مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل ممّا جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه»، لأنه في معنى أن من قال ذلك فقد أتى بأفضل مما جاء به كلّ أحد إلا أحداً قال مثل ذلك أو زاد عليه. فالاستثناء بظاهره من النفي، وبالتحقيق من الإثبات.
وعن عمرو بن العاص، قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: أي الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر.
وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم: لو كان بعدي نبي لكان عمر.
وعن عبداللّه بن حنطب أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال: هذان السمع والبصر.
وأمّا الأثر، فعن ابن عمر، كنا نقول ورسول اللّه حي: أفضل أمة النبي صلّى اللّه عليه وسلم بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان.
وعن محمّد بن الحنفية، قلت لأبي: أي الناس خير بعد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: عمر. وخشيت أن أقول: ثم من، فيقول عثمان. فقلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
وعن علي رضي اللّه عنه: خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثم عمر، ثم اللّه أعلم.
وعنه رضي اللّه عنه لما قيل له: ما توصي؟ قال: ما أوصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حتى أوصي. ولكن إن أراد اللّه بالناس خيراً جمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيّهم على خيرهم.
وأمّا الأمارات، فما تواتر في أيام أبي بكر من اجتماع الكلمة، وتألف القلوب وتتابع الفتوح وقهر أهل الردة، وتطهير جزيرة العرب عن الشرك، وإجلاء الروم عن الشام وأطرافها، وطرد فارس عن حدود السواد وأطراف العراق، مع قوتهم وشوكتهم ووفور أموالهم، وانتظام أحوالهم.
وفي أيام عمر من فتح جانب المشرق إلى أقصى خراسان، وقطع دولة العجم وثل عرشهم الراسي البنيان، الثابت الأركان. ومن ترتيب الأمور، وسياسة الجمهور، وإفاضة العدل، وتقوية الضعفاء، ومن إعراضه من متاع الدنيا وطيباتها وملاذها وشهواتها.
وفي أيام عثمان من فتح البلاد، وإعلاء لواء الإسلام، وجمع الناس على مصحف واحد مع ما كان له من الورع والتقوى، وتجهيز جيوش المسلمين، والإنفاق في نصرة الدين، والمهاجرة هجرتين، وكونه ختاً للنبي صلّى اللّه عليه وسلم على ابنتين، والاستحياء من أدنى شين، وتشرفه بقوله عليه السلام: عثمان أخي ورفيقي في الجنة، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: ألا أستحي ممّن تستحي منه ملائكة السماء. وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: إنه رجل يدخل الجنة بغير حساب.
قال: تمسّكت الشيعة بقوله تعالى: (قُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أراد علياً. وقوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). وعلي رضي اللّه عنه منهم.
وقوله تعالى: (وَجِبْريلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنينَ). وهو علي.
وبقوله صلّى اللّه عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب.
وقوله: أقضاكم علي.
وقوله: اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير، فجاء علي.
وقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى… إلى غير ذلك.
وبأنه أعلم حتى استند رؤساء العلوم إليه، وأخبر بذلك في خبر الوسادة، وأشهد على ما يشهد به غزواته، حتى قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «لضربة علي خير من عبادة الثقلين» وأزهد حتى طلّق الدنيا بكليّتها، وأكثر عبادة وسخاوة، وأشرف خلقاً وطلاقة، وأفصح لساناً، وأسبق إسلاماً.
والجواب: أن الكلام في الأفضلية بمعنى الكرامة عند اللّه، وكثرة الثواب، وقد شهد في ذلك عامة المسلمين، واعترف علي رضي اللّه عنه به. وعارض ما ذكرتم ما ذكرنا، مع أن فيه مواضع بحث لا تخفى، سيما حديث سبق الإسلام والسيف في إعلاء الأعلام).
القائلون بأفضليّة علي رضي اللّه عنه تمسّكوا بالكتاب والسنّة والمعقول.
أمّا الكتاب، فقوله تعالى: (قُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ…) الآية.
عنى بأنفسنا عليّاً رضي اللّه تعالى عنه وإن كان صيغة جمع، لأنه صلّى اللّه عليه وسلم دعا وفد نجران إلى المباهلة، وهو الدعاء على الظالم من الفريقين خرج ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي، وهو يقول لهم: إذا أنا دعوت فأمنوا، ولم يخرج معه من بني عمّه غير علي رضي اللّه عنه، ولا شك أن من كان بمنزلة نفس النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان أفضل.
وقوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).
قال سعيد بن جبير: لما نزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول اللّه، من هؤلاء الذين تودّهم؟ قال: علي وفاطمة وولداها.
ولا يخفى أن من وجبت محبّته بحكم نصّ الكتاب كان أفضل. وكذا من تثبت نصرته للرسول بالعطف في كلام اللّه تعالى عنه على اسم اللّه وجبريل مع التعبير عنه بصالح المؤمنين، وذلك قوله تعالى: (فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْريلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنينَ). فعن ابن عباس رضي اللّه عنه أن المراد به علي.
وأمّا السنّة، فقوله عليه السلام: «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب»، ولا خفاء في أن من ساوى هؤلاء الأنبياء في هذه الكمالات كان أفضل.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: «أقضاكم علي» والأقضى أكمل وأعلم.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: «اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير» فجاءه علي فأكل معه. والأحبّ إلى اللّه أكثر ثواباً، وهو معنى الأفضل.
وبقوله عليه السلام: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ولم يكن عند موسى أفضل من هارون.
وقوله عليه السلام: «من كنت مولاه فعلي مولاه» الحديث.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم يوم خيبر: لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح اللّه على يديه، يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، فلما أصبح الناس، غدوا على رسول اللّه كلّهم يرجون أن يعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: هو يا رسول اللّه يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأتي به. فبصق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيهما فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: أنا دار الحكمة، وعلي بابها.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم لعلي: أنت أخي في الدنيا والآخرة، وذلك حين آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه فقال: آخيت بين أصحابك ولم تواخ بيني وبين أحد.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: «لمبارزة علي عمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة».
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم لعلي: «أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ومن أحبك فقد أحبني وحبيبي حبيب اللّه. ومن أبغضك فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض اللّه. فالويل لمن أبغضك بعدي».
وأمّا المعقول، فهو أنه أعلم الصحابة لقوة حدسه وذكائه، وشدة ملازمته للنبي صلّى اللّه عليه وسلم واستفادته منه.
وقد قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حين نزل قوله تعالى: (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ). اللهم اجعلها أذن علي. قال علي: ما نسيت بعد ذلك شيئاً.
وقال: علّمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ألف باب من العلم فانفتح لي من كلّ باب ألف باب.
ولهذا رجعت الصحابة إليه في كثير من الوقائع، واستند العلماء في كثير من العلوم إليه، كالمعتزلة والأشاعرة في علم الأصول، والمفسرين في علم التفسير، فإن رئيسهم ابن عباس تلميذ له. والمشايخ في علم السرّ وتصفية الباطن، فإن المرجع فيه إلى العترة الطاهرة. وعلم النحو إنما ظهر منه.
وبهذا قال: لو كسرت الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم.
واللّه ما من آية نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل، أو نهار إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وفي أي شيء نزلت.
وأيضاً: هو أشجعهم، يدلّ عليه كثرة جهاده في سبيل اللّه، وحسن إقدامه في الغزوات، وهي مشهورة غنية عن البيان، ولهذا قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم: لا فتى إلا علي، ولا سيف إلا ذو الفقار.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم يوم الأحزاب: لضربة علي خير من عبادة الثقلين.
وأيضاً: هو أزهدهم لما تواتر من إعراضه عن لذات الدنيا مع اقتداره عليها لا تساع أبواب الدنيا عليه. ولهذا قال: يا دنيا إليك عني، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت، لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، فقد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وحظّك يسير، وأملك حقير. وقال: واللّه لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم. وقال: واللّه لنعيم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز.
وأيضاً: هو أكثرهم عبادة، حتى روي أن جبهته صارت كركبة البعير لطول سجوده.
وأكثرهم سخاوة، حتى نزل فيه وفي أهل بيته: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكينًا وَيَتيمًا وَأَسيرًا).
وأشرفهم خلقاً وطلاقة وجه، حتى نسب إلى الدعابة، وأحلمهم، حتى ترك ابن ملجم في دياره وجواره يعطيه العطاء، مع علمه بحاله. وعفا عن مروان حين أخذ يوم الجمل مع شدة عداوته له، وقوله فيه: سيلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر.
وأيضاً: هو أفصحهم لساناً على ما يشهد به كتاب نهج البلاغة.
وأسبقهم إسلاماً على ما روي أنه بعث النبي يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء.
وبالجملة، فمناقبه أظهر من أن تخفى، وأكثر من أن تحصى.
والجواب: أنه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله، وإتصافه بالكمالات، واختصاصه بالكرامات، إلا أنه لا يدلّ على الأفضليّة بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند اللّه، بعد ما ثبت من الاتفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضلية أبي بكر، ثم عمر. والاعتراف من علي بذلك.
على أن فيما ذكر مواضع بحث لا تخفى على المحصّل مثل: أن المراد بأنفسنا نفس النبي صلّى اللّه عليه وسلم كما يقال: دعوت نفسي إلى كذا وأن وجوب المحبة وثبوت النصرة على تقدير تحققه في حق علي رضي اللّه عنه فلا اختصاص به. وكذا الكمالات الثابتة للمذكورين من الأنبياء، وأن «أحبّ خلقك» يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر منه، عملاً بأدلّة أفضليّتهما، ويحتمل أن يراد «أحبّ الخلق إليك» في أن يأكل منه.
وأن حكم الأخوة ثابت في حق أبي بكر وعثمان رضي اللّه عنهما أيضاً حيث قال في حق أبي بكر: لكنه أخي وصاحبي ووزيري، وقال في عثمان: أخي ورفيقي في الجنة.
وأما حديث العلم والشجاعة، فلم تقع حادثة إلا ولأبي بكر وعمر فيه رأي، وعند الاختلاف لم يكن يرجع إلى قول علي رضي اللّه تعالى عنه البتة بل قد وقد.
ولم يكن رباط الجأش وشجاعة القلب وترك الاكتراث في المهالك في أبي بكر أقل من أحد، سيما فيما وقع بعد النبي صلّى اللّه عليه وسلم من حوادث يكاد يصيب وهناً في الإسلام. وليس الخير في هداية من من اهتدى ببركة أبي بكر ويمن دعوته وحسن تدبيره، أقل من الخير في قتل من قتله علي رضي اللّه تعالى عنه من الكفار، بل لعلّ ذلك أدخل في نصرة الإسلام وتكثير أمة النبي صلّى اللّه عليه وسلم:
وأمّا حديث زهدهما في الدنيا، فغني عن البيان.
وأما السابق إسلاماً، فقيل: علي. وقيل: زيد بن حارثة. وقيل: خديجة. وقيل: أبو بكر، وعليه الأكثرون، على ما صرّح به حسان بن ثابت في شعر أنشده على رؤوس الأشهاد، ولم ينكر عليه أحد. وقيل: أوّل من آمن به من النساء خديجة رضي اللّه تعالى عنها ومن الصبيان علي رضي اللّه تعالى عنه، ومن العبيد زيد بن حارثة، ومن الرجال الأحرار أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه، وبه اقتدى جمع من العظماء كعثمان، والزبير، وطلحة، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم.
والإنصاف: أن مساعي أبي بكر وعمر في الإسلام أمراً على الشأن، جلي البرهان، غني عن البيان؟
وأمّا بعدهم، فقد ثبت أن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن العشرة الذين منهم الأئمة الأربعون مبشرون بالجنة، ثم الفضل بالعلم والتقوى، وإنما اعتبار النسب في الكفاءة لأمر يعود إلى الدنيا، وفضل العترة الطاهرة بكونهم أعلام الهداية وأشياع الرسالة على ما يشير إليه ضمهم إلى كتاب اللّه في انفاد التمسك بهما عن الضلالة).
ما ذكر من أفضلية بعض الأفراد بحسب التعيين أمر ذهب إليه الأئمة، وقامت عليه الأدلّة.
قال الإمام الغزالي رحمة اللّه تعالى عليه: حقيقة الفضل ما هو عند اللّه، وذلك مما لا يطّلع عليه إلا رسول اللّه. وقد ورد في الثناء عليهم أخبار كثيرة، ولا يدرك دقائق الفضل والترتيب فيه إلا المشاهدون للوحي والتنزيل بقرائن الأحوال. فلولا فهمهم ذلك، لما رتبوا الأمر كذلك، إذ كان لا تأخذهم في اللّه لومة لائم، ولا يصرفهم عن الحق صارف»(1).
(1) شرح المقاصد: 5 / 291 ـ 301.