وفي شرح العقيدة الطحاويّة:
«قوله: ونثبت الخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة.
اختلف أهل السنة في خلافة الصديق رضي اللّه عنه: هل كانت بالنص، أو بالاختيار؟ فذهب الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث إلى أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة، ومنهم من قال بالنص الجلي. وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية إلى أنها تثبت بالاختيار.
والدليل على إثباتها بالنص أخبارٌ: من ذلك ما أسنده البخاري عن جُبير بن مُطعم، قال: أتت امرأة النبي صلّى اللّه عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئتُ فلم أجدك؟ كأنها تريد الموت، قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر». وذكر له سياق آخر، وأحاديث أخر. وذلك نص على إمامته.
وحديث حُذيفة بن اليمان، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «اقتدوا باللّذين من بعدي: أبي بكر وعمر». رواه أهل السنن.
وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها، قالت: دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في اليوم الذي بُدىء فيه، فقال: «ادعي لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي بكر كتاباً، ثم قال: يأبي اللّه والمسلمون إلا أبا بكر». وفي رواية: «فلا يطمع في هذا الأمر طامع». وفي رواية: قال: «ادعي لي عبدالرحمن بن أبي بكر، لأكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه، ثم قال: معاذَ اللّه أن يختلف المؤمنون في أبي بكر».
وأحاديث تقديمه في الصّلاة مشهورة معروفة، وهو يقول: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس». وقد روجع في ذلك مرةً بعد مرة. فصلّى بهم مدّة مرض النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «بينا أنا نائم رأيتُني على قليب، عليها دلو، فنزعت منها ما شاء اللّه، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع منها ذَنوباً أو ذنوبين، وفي نَزعه ضعف، واللّه يغفر له، ثم استحالت غَرْباً، فأخذها ابن الخطاب، فلم أرَ عبقريّاً من الناس يَفري فَرِيَّه، حتى ضرَب الناسُ بعَطن».
وفي «الصحيح» أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال على منبره: «لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لا يبقينّ في المسجد خوخة إلاّ سدَّت، إلا خوخة أبي بكر».
وفي «سنن أبي داود» وغيره، من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة، أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال ذات يوم: «من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل أنا: رأيت ميزاناً ]أنزل[ من السماء، فَوزُنتَ أنت وأبو بكر، فرجحت أنت بأبي بكر، ثم وُزن عمر وأبو بكر، ووزن عمر وعثمان، فرجع عمر، ثم رفع، فرأيت الكراهة في وجه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: «خلافة نبوَّة، ثم يؤتي اللّه الملك من يشاء». فبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أن ولاية هؤلاء خلافةٌ نبوة، ثم بعد ذلك ملك. وليس فيه ذكر علي رضي اللّه عنه، لأنه لم يجتمع الناس في زمانه، بل كانوا مختلفين، لم ينتظم فيه خلافةُ النبوة ولا الملك.
وروى أبو داود أيضا عن جابر رضي اللّه عنه، أنه كان يحدث، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «أُرِيَ الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيطَ برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر»، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قلنا: أما الرجل الصالح فرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأما المنوط بعضُهم ببعض فهم وُلاة هذا الأمر الذي بعث اللّه به نبيه.
وروى أبو داود أيضا عن سمرة بن جندب: أن رجلاً قال: يا رسول اللّه، رأيتُ كأنّ دلواً دلي من السماء، فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها، فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى نضلَّع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلّع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها، فانتشطت منه، فانتضح عليه منها شيء.
وعن سعيد بن جُمْهان، عن سفينة. قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي اللّه مُلكه من يشاء». أو «الملك».
واحتج من قال لم يستخلف، بالخبر المأثور، عن عبداللّه بن عمر، عن عمر رضي اللّه عنهما، أنه قال: «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني أبا بكر، وإن لا أستخلف، فلم يستخلف من هو خير ]مني[، يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ]قال عبداللّه: فعرفت أنه حين ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غير مستخلف[. وبما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها سئلت من كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مستخلفاً لو استخلف.
والظاهر ـ واللّه أعلم ـ أن المراد أنه لم يستخلف بعهد مكتوب، ولو كتب عهداً لكتبه لأبي بكر، بل قد أراد كتابته ثم تركه، وقال: «يأبى اللّه والمسلمون إلا أبا بكر». فكان هذا أبلغ من مجرد العهد، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم دلَّ المسلمين على استخلاف أبي بكر، وأرشدهم إليه بأمور متعددة، من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك، حامد له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه، فترك الكتاب اكتفاءً بذلك، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس، ثم لمّا حصل لبعضهم شكّ: هل ذلك القول من جهة المرض؟ أو هو قول يجب اتّباعه؟ ترك الكتابة، اكتفاءً بما علم أن اللّه يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر. فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبيّنه بياناً قاطعاً للعذر، لكن لمّا دلّهم دلالات متعددةً على أن أبا بكر المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود.
ولهذا قال عمر رضي اللّه عنه، في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ولم ينكر ذلك منهم أحد، ولا قال أحد من الصحابة إن غير أبي بكر من المهاجرين أحقّ بالخلافة منه، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار، طمعاً في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم بطلانه. ثم الأنصار كلّهم بايعوا أبا بكر، إلا سعد بن عبادة، لكونه هو الذي كان يطلب الولاية، ولم يقل أحد من الصحابة قط أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم نصّ على غير أبي بكر، لا عليّ، ولا العباس، ولا غيرهما، كما قد قال أهل البدع!
وروى ابن بطة بإسناده أن عمر بن عبدالعزيز بعث محمّد بن الزبير الحنظلي إلى الحسن، فقال: هل كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم استخلف أبا بكر؟ فقال: أوَ في شكّ صاحبُك؟ نعم، واللّه الذي لا إله إلا هو استخلفه، لهو كان أتقى للّه من أن يتوثب عليها.
وفي الجملة: فجميع من نُقل عنه أنه طلب توليةً غير أبي بكر، لم يذكر حجةً شرعيّةً، ولا ذكر أن غير أبي بكر أفضل منه، أو أحقُّ بها، وإنما نشأ من حبّ قبيلته وقومه فقط، وهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي اللّه عنه، وحبَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم له.
ففي «الصحيحين»، عن عمرو بن العاص: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته، فقلت: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: «عائشة»، قلت: من الرجال؟ قال: «أبوها»، قلت: ثم من؟ قال: «عمر، وعدّ رجالاً».
وفيهما أيضا، عن أبي الدرداء، قال: كنت جالساً عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبتيه، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «أمّا صاحبكم فقد غامر»، فسلَّم، وقال: ]يا رسول اللّه[، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي ]فأبى عليّ، فأقبلت إليك[، فقال: «يغفر اللّه لك يا أبا بكر، ثلاثاً»، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثَمّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ]فسلّم عليه[، فجعل وجه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يتمعَّر، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول اللّه، واللّه أنا كنتُ أظلمَ، مرتين[، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: إن اللّه بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صَدَقَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين، فما أوذي بعدَها». ومعنى: غامر: غاضَب وخاصَم.
ويضيق هذا المختصر عن ذكر فضائله.
وفي «الصحيحين» أيضاً، عن عائشة رضي اللّه عنها: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح ـ فذكر الحديث ـ إلى أن قالت: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة، في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير! فذهب إليهم أبو بكر ]الصديق[، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلّم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: واللّه ما أردتُ بذلك إلاَّ أني ]قد[ هيّأت في نفسي كلاماً قد أعجلني، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر! ثم تكلّم أبو بكر، فتكلّم أبلغَ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا واللّه لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء. هم أوسط العرب، وأعزُهم أحساباً، فبايعوا عُمَر ]بن الخطاب[، أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل نبايعك، فأنت سيدنا، وخيرنا وأحبُّنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخذ عمر بيده، فبايعه، وبايعه الناس. فقال قائل: قتلتم سعداً، فقال عمر: قتله اللّه»(1).
(1) شرح العقيدة الطحاويّة: 471 ـ 476.