وهذا زور وبهتان منه على اللّه ورسوله، ومن يصدر منه مثله كيف يصلح لأن يكون إماماً للمسلمين؟
وقال العلاّمة في نهج الحق: «قالوا: إنه سمّى نفسه خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وكتب إلى الأطراف بذلك، وهذا كذب صريح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، لأنه لم يستخلفه، واختلف الناس فيه، فالإمامية قالوا: إنه مات صلّى اللّه عليه وآله عن وصية وأنه استخلف أمير المؤمنين عليه السلام إماماً بعده. وقالت السنة كافة: إنه مات بغير وصيّة ولم يستخلف أحداً، وأن إمامة أبي بكر لم تثبت بالنص إجماعاً بل ببيعة عمر بن الخطاب وأصحابه، وهم أربعة: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وسالم مولى أبي حذيفة لا غير. وقال عمر: إن لم أستخلف فإن رسول اللّه لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف. وهذا تصريح بعدم استخلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أحداً. وقد كان الأولى أن يقال إنه خليفة عمر لأنه هو الذي استخلفه».
أقول:
إن «الإمامة» و «الخلافة» متصادقان، وللإمام والخليفة عن رسول اللّه «الولاية» المطلقة، ولا خلاف بين الفريقين في تعريف الإمامة بعد النبي، قال في شرح المواقف:
«الإمامة رئاسة عامّة في امور الدّين والدنيا لشخص من الأشخاص»(1). وقال العلاّمة الحلّي: «الإمامة رئاسة عامة في أمور الدّين والدنيا لشخص من الأشخاص»(2).
هذا أوّلاً.
وثانياً: قد تقرّر عند القوم أن الإمامة تثبت بالبيعة والاختيار، كما تثبت بالنصّ من اللّه والرسول(3).
وثالثاً: قد نصّ القوم على أن لا نصّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على أبي بكر، وإنما تثبت إمامته باختيار الناس له(4).
وبالنظر إلى ما تقدّم، يرد الإشكال على أبي بكر: أنه لماذا تسمّى خليفة رسول اللّه، ورسول اللّه لم يستخلفه؟ بل الأولى أن يقال: إنه خليفة عمر، لأنه هو الذي استخلفه وثبتت إمامته ببيعته، كما نصّ على ذلك غير واحد من أئمتهم.
فهذا هو الإشكال، فما هو الجواب؟
أجاب ابن روزبهان بما نصه: «ما أجهل هذا الرجل باللّغة، فإن الخليفة فعيلة بمعنى الخالف، وخليفة الرجل من يأتي خلفه، ولا يتوقف إطلاق الخليفة المضافة إلى شخص باستخلافه إياه، فمعنى خليفة رسول اللّه: الذي تولّى الخلافة بعده، سواء استخلفه أم لم يستخلفه، فلو سلّمنا أن أبا بكر هو سمّى نفسه بهذا الاسم، فإنه لا يكون كذباً لما ذكرنا. ثم لا شك أن عليّاً خاطبه في أيام خلافته بخليفة رسول اللّه، ولو كان كذباً لما تكلّم به ولا خاطبه به. ولكن للشيعة في أمثال هذه المضائق سعة من التقيّة. والظاهر أن القوم خاطبوه بذلك، ولو أنه سمّى نفسه بهذا صح كما ذكرناه فلا طعن»(5) انتهى.
أقول:
وهذا الكلام يشتمل على وجوه:
الأوّل: التشكيك في أنه سمّى نفسه، بل سمّاه الناس.
والجواب: إنه كتب إلى الآفاق: من أبي بكر خليفة رسول اللّه… وهذا ثابت لا مجال لإنكاره، ولذا لم ينكره مثل ابن تيمية.
والثاني: حمل «الخليفة» في محلّ البحث على المعنى اللّغوي.
والجواب: إن هذا خروج عن البحث، فإن المراد هو الخلافة بالمعنى الذي توافق الطرفان عليه كما تقدّم. ولذا أشار ابن تيمية إلى أن بعضهم زعم استخلاف النبي أبا بكر كما سنذكره، فما جاء به هذا الأشعري الفارسي ردّاً على العلاّمة الحلّي جهل أو تجاهل.
والثالث: إن أمير المؤمنين عليه السلام خاطبه بذلك.
والجواب: أوّلاً: أين السند الصحيح المتفق عليه بين الطرفين في أنه خاطبه بخليفة رسول اللّه؟ وثانياً: إن كان ذلك فهو محمول على التقية كما ذكر.
وبما ذكرنا سقط دفاع ابن تيمية وابن روزبهان عن أبي بكر.
وكأنّ بعض القوم لمّا التفت إلى سقوط ما ذكره، التجأ إلى دعوى أن النبي صلّى اللّه عليه وآله قد استخلف أبا بكر. وحينئذ يتوجّه السؤال: أين الدليل الثابت سنداً ودلالة على ذلك؟
فاضطرب القوم في الجواب، فمنهم من أقرّ بعدم النصّ مطلقاً وأن خلافة أبي بكر كانت بالبيعة والإختيار كما تقدّم. ومنهم من ادّعى النّص، واختلفوا بين من يدّعي النصّ الجلىّ ومن يدّعي النصّ الخفي، لكن إثبات النصّ الجليّ حتى من طرقهم المكذوبة مستحيل.
فاضطرّوا إلى التمسّك بحديث نصبه للصّلاة في مرضه، وجعلوه نصّاً خفياً، ولكن قد ثبت أن صلاة أبي بكر تلك لم تكن بأمر من النبي صلّى اللّه عليه وآله، بل خرج يتهادى بين رجلين وصلاّها هو… ثم إنهم يعلمون بأن النيابة في الصّلاة لا تستلزم النيابة العامة في أمور الدين والدنيا. وقد تقدّم بعض الكلام على هذا المورد في الكتاب سابقاً. وسيأتي بالتفصيل في محلّه من الكتاب إن شاء اللّه.
وتلخّص: ثبوت الطعن والحمد للّه رب العالمين.
(1) شرح المواقف 8 / 345.
(2) النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر: 93.
(3) شرح المواقف 8 / 351.
(4) شرح المواقف 8 / 354.
(5) انظر: دلائل الصدق 3 / 7 ـ 8 .