قال ابن تيمية: «والجواب: إن هذا هو الوجه الأول بعينه ولكنْ قرّره. وقد تقدّمت الأجوبة عنه بمنع المقدّمة الاولى وبيان فساده هذا الاستدلال، فإن مبناه على الاحتجاج بالإجماع. فإن كان الإجماع معصوماً أغنى عن عصمة علي، وإنْ لم يكن معصوماً، بطلت دلالته على عصمة علي. فبطل الدليل على التقديرين»(1).
أقول:
أيّ شيء يمنع الرجل من المقدّمة الاولى، يمنع قدرة اللّه على نصب الإمام المعصوم أو الحاجة إلى الإمام أو عدم وجود المفسدة في نصبه؟ وأين تقدَّم الجواب عن ذلك؟ وأين ابتناء الاستدلال على الإجماع؟
نعم، قال العلاّمة في المقدّمة الثانية: وغير علي لم يكن كذلك إجماعاً. وسيأتي أن هذا بيان للمصداق.
ثم ذكر ابن تيميّة وجوهاً:
«أحدها: أن يقال: لا نسلّم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم، وذلك لأن عصمة الاُمة مغنية عن عصمته… .
الثاني: إن اُريد بالحاجة أنّ حالهم مع وجوده أكمل، فلا ريب أن حالهم مع عصمة نوّاب الإمام أكمل وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل، وليس كلّ ما تقدّره الناس أكمل لكلٍّ منهم يفعله اللّه، ولا يجب عليه فعله.
وإنْ اُريد أنهم مع عدمه يدخلون النار أو لا يعيشون في الدنيا أو يحصل لهم نوع من الأذى، فيقال: هبْ أنّ الأمر كذلك، فلم قلت: إنّ إزالة هذا واجب، ومعلوم أنّ الأمراض والهموم والغموم موجودة… .
الثالث: أن يقال: المعصوم الذي تدعو الحاجة إليه، أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد، أم هو عاجز عن ذلك؟
الثاني ممنوع، فإن العاجز لا يحصل به وجود المصلحة ولا دفع المفسدة، بل القدرة شرط في ذلك… .
وإن قيل: بل المعصوم القادر.
قيل: فهذا لم يوجد.
وإنْ كان هؤلاء الاثنا عشر قادرين على ذلك ولم يفعلوه، لزم أن يكونوا عصاة… .
الرابع: أن يقال: هذا موجود في هذا الزمان وسائر الأزمنة، وليس في هذا الزمان أحد يمكنه العلم بما يقوله، فضلاً عن كونه يجلب مصلحة أو يدفع مفسدةً. فكان ما ذكروه باطلاً.
الخامس: لا نسلّم أنه لا مفسدة في نصبه، وهذا النفي العامّ لابدّ له من دليلٌ ولا يكفي في ذلك عدم العلم بالمفسدة، فإنّ عدم العلم ليس علماً بالعدم.
ثم من المفاسد في ذلك أن يكون طاعة من ليس بنبيّ وتصديقه مثل طاعة النبي مطلقاً…»(2).
أقول:
هذه عمدة وجوه الجواب، أوردناها ملخّصةً بلفظه، فلينظر الباحث المنصف في كلامه واستدلال العلاّمة.
أمّا الوجه الأوّل، فتكرارٌ منه، وقد بيّنا فساده.
وأمّا الوجه الثاني، فمغالطة، لأن المقصود بالحاجة هو الحاجة الدينيّة، فإنّ الإمام ينوب عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في الرئاسة الدينية بأن يعلّم الناس ويزكّيهم، والدنيويّة، بأنْ يبسط فيهم العدل، وليست الحاجة إلى الإمام أن تزول به الأمراض والأسقام… .
وأمّا الوجه الثالث، فخلط بين الكبرى والمصداق، والأئمة عليهم السّلام لم يكونوا عاجزين، بل الظالمون حالوا دون تصدّيهم، والاُمة لم تنتفع ولم يسمعوا منهم، ولو كان ذلك عجزاً من الأئمة، فالنبيّ صلّى اللّه عليه وآله، الذي حال أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان، وكذلك المنافقون الموجودون حوله صلّى اللّه عليه وآله، دون الوصول إلى مقاصده، كان عاجزاً، فلم يحصل الغرض الداعي لبعثته، وهذا هو الكفر.
وأمّا الوجه الرابع، فقد تقدّم الجواب عن نظيره.
وأمّا الوجه الخامس، فسخيف جدّاً، ولا يستحقّ النظر والجواب.
وعلى هذه الوجوه التي عرفتها فقس ما سواها.
(1) منهاج السنة 6 / 465 ـ 466.
(2) منهاج السنّة 6 / 466 ـ 474.