أجاب ابن تيمية بوجوه:
أحدها: أنّا لا نسلّم أنه يجب أن يكون حافظاً للشرع، بل يجب أنْ تكون الاُمّة حافظةً للشرع… .
وهو مردودٌ: بأنّ الاُمّة غير معصومة، والخطأ والسّهو جائز على آحادها وجماعتها، فلابدّ من إمام معصوم حافظ لها، وهو لا ينصب إلاّ من قبل اللّه عز وجلّ.
والوجه الثاني: إذا كان لا يمكن معرفة شيء من الشرع إلاّ بحفظه، يلزم أنْ لا تقوم حجة على أهل الأرض إلاّ بنقله، ولا يعلم صحّة نقله حتى يعلم أنه معصوم، ولا يعلم أنه معصوم إلاّ بالإجماع على نفي عصمة من سواه. فإن كان الإجماع معصوماً أمكن حفظ الشرع به وإنْ لم يكن معصوماً لم تعلم عصمته.
وهو مردود: بأنّ عصمته تعلم بنصبه للإمامة من اللّه تعالى، لأنَّ اللّه لا ينصب للإمامة إلاّ المعصوم، ولا يعرف المعصوم إلاّ اللّه.
والوجه الثالث: إن ما ذكره ينقص من قدر النبوّة، فإنه إذا كان الذي يدّعى العصمة فيه من عصبته، كان ذلك من أعظم التهم التي توجب القدح في نبوّته، ويقال إنه كان طالب ملك أقامه لأقاربه، وعهد إليهم ما يحفظون به الملك، وأنْ لا يعرف ذلك غيرهم، فإنّ هذا بأمر الملك أشبه منه بأمر الأنبياء.
وهو وجه سخيف جدّاً، وقد عرفت أنّ هذه المقدّمة كبرويّة، ولا نظر فيها إلى المصاديق.
والوجه الرابع: أن يقال: الحاجة ثابتة إلى معصوم في حفظ الشرع ونقله، وحينئذ، فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة الذين حفظوا القرآن والحديث وبلّغوه هم المعصومون الذين حصل بهم مقصود حفظ الشرع وتبليغه، ومعلوم أنّ العصمة إذا حصلت في الحفظ والتبليغ من النقلة، حصل المقصود وإنْ لم يكونوا هم الأئمة.
وهو مردود: بأنه خلفٌ، لما تقدّم من ضرورة وجود الإمام بعد النبي صلّى اللّه عليه وآله بإجماع المسلمين قاطبةً.
وأيضاً، كيف يحفظ الشرع بالصّحابة، والحال أنّ كلّ تبديل وتغيير حصل فيه فهم الأصل له؟
والوجه الخامس: إنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلّغه إلاّ واحد بعد واحد، معصوم عن معصوم، فهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستّين سنة لم يأخذ عنه أحد شيئاً من الشرع… .
وهذا الوجه ذكره القاضي المعتزلي بقوله:
«ثم يقال لهم: يجب على هذه العلّة في هذا الزمان والإمام مفقود أو غائب أنْ لا نعرف الشريعة. ثم لا يخلو حالنا من وجهين:
إمّا أن نكون معذورين وغير مكلّفين لذلك، فإنْ جاز ذلك فينا ليجوّزه في كلّ عصر بعد الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وذلك يغني عن الإمام وتبطل علّتهم.
وإنْ قالوا: بل نعرف الشريعة لا من قبل الإمام.
قيل لهم: فبأيّ وجه يصحّ أن نعرفها، يجب جواز مثله في سائر الأعصار، وفي ذلك الغنى عن الإمام في كلّ عصر».
فأجاب السيّد المرتضى علم الهدى بقوله:
قد بيّنا: أنّ الفرقة المحقّة القائلة بوجود امام حافظ للشريعة، هي عارفة بما نقل من الشريعة عن النبي صلّى اللّه عليه وآله، وما لم ينقل عنه فيما نقل عن الأئمة القائمين بالأمر بعده عليه السلام، وواثقة بأنّ شيئاً من الشريعة يجب معرفته لمن لم يُخل به من أجل كون الإمام من وراثها، وبيّنا أنّ من خالف الحقّ وضلَّ عن دين اللّه تعالى الذي ارتضاه لا يعرف أكثر الشريعة، لعدوله عن الطريق الذي يوصل إلى العلم بها، ولا يثق بأنّ شيئاً ممَّا يلزمه معرفته لم ينطوِ عنه وإن أظهر الثقة من نفسِهِ، ولا يجب أن يكون مَن هذا حكمهُ معذوراً، لتمكّنه من الرجوع إلى الحقِّ.
فأمّا قولك: «إن قالوا بل نعرفها لا من قبل الإمام».
فإن أردت إمام زماننا، فقد بيّنا إنّا قد عرفنا أكثر الشريعة ببيان من تقدّم من آبائه عليهم السلام، غير أنّه لا نقضي الغنى في الشريعة من الوجود الذي تردّد في كلامنا مراراً.
وإن أردت أن تعرف الشريعة لا من قبل إمام في الجملة بعد الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقد دلّلنا على بطلان ذلك.
وبعد وإن تقدّم أكثر ما اختلف فيه من الشريعة لولا ما نقل عن الأئمة من آل الرسول صلّى اللّه عليه وآله فيه من البيان لما عرف الحقّ، وأن من عوّل في الشريعة على الظنّ، فقد خبط وضلّ عن القصد، وبيّنا ـ أيضاً ـ أن جميع الشريعة لو كان منقولاً عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولم يقف منها شيءٌ على بيان الأئمة بعده عليه السلام لكانت الحاجة إليهم فيها قائمة من حيث كان يجوز على من نقلها فعلمناها أن لا ينقلها، وبعد أن نقلها أن يعدل عن نقلها فلا يعلم في المستقبل»(1).
(1) الشافي في الإمامة 1 / 186.