وهلمّ معي، لننظر في كلام ابن تيمية، فإنه قال:
«فالجواب: إن أباذر سكن الربذة ومات بها، لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس، فإن أباذر رضي اللّه عنه كان رجلاً صالحاً زاهداً، وكان من مذهبه أن الزهد واجب… وقد وافق أباذر على هذا طائفة من النسّاك… وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول… وكان أبوذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجبه اللّه عليهم، ويذمّهم على مالم يذمّهم اللّه عليه… ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض»(1).
أقول:
هذا تلخيص كلامه بلفظه، فأعرضه على ما تقدّم من روايات أعلام قومه. يقول ابن تيمية: «سكن الربذة» ولا يقول: «نفي إلى الربذة» وقد عرفت أن كبار المؤرخين يروون أنه قد نفاه عثمان إليها… مضافاً إلى تصريح الشهرستاني بذلك في (الملل والنحل) والحلبي في (السيرة) وابن حجر المكي في (الصواعق) وابن الأثير في (أسد الغابة) وابن عبد البر في (الاستيعاب) والتفتازاني في (شرح المقاصد)، وكذا كلّ من ذكر الخبر ثم حاول الدفاع عن عثمان وتبرير ما منه صدر.
ويقول ابن تيمية: «لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس» ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول ـ في الحديث الصحيح عند القوم كما تقدّم ـ «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء…؟» فالنبي يخبر عمّا سيقع بينه وبين «الأمراء» وابن تيمية يقول «الناس» هذا أوّلاً.
وثانياً: إن السبب ليس إيجابه الزهد، بل تحريمه التصرّف في بيت المال من عثمان وذويه، وتسليط أهل الفسق والجور من أقربائه على المسلمين… وهذا هو حكم اللّه ورسوله.
وأمّا قوله: «لم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض» فكذب واضح، فهو الذي سيّره أوّلاً إلى الشام، ثم أمر معاوية بحمله منها إلى المدينة بالكيفية المذكورة في الأخبار، ثم هو الذي أهانه وهدّده بالقتل، وهو الذي سيّره إلى الربذة، الأمر الذي كان أحد أسباب قيام المسلمين ضدّه ونقمتهم عليه، حتى انتهى إلى قتله!
(1) منهاج السنّة 6 / 272.