قال البلاذري:
أمر أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي اللّه عنه، من بني كنانة بن خزيمة.
قالوا: لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم، جعل أبو ذر يقول بشّر الكانزين بعذاب أليم ويتلو قول اللّه عز وجلّ: (وَالَّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية. فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر ناتلاً مولاه أن انته عمّا يبلغني عنك. فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه وعيب من ترك أمر اللّه، فواللّه لأن أرضي اللّه بسخط عثمان أحبّ إلي وخير لي من أن أسخط اللّه برضاه، فأغضب عثمان ذلك وأحفظه، فتصابر وكفّ.
وقال عثمان يوماً: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك، فقال أبوذر: يابن اليهوديين، أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان: ما أكثر أذاك لي وأولعك بأصحابي، الحق بمكتبك، وكان مكتبه بالشام إلا أنه كان قدم حاجّاً ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فيأذن له في ذلك، وإنما صار مكتبه بالشام، لأنه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعاً: إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول: «إذا بلغ البناء سلعاً فالهرب»، فأذن لي آت الشام فأغزو هناك، فأذن له.
وكان أبوذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها، وبعث إليه معاوية بثلاثمائة دينار فقال: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلةً فلا حاجة لي فيها. وبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري بمائتي دينار فقال: أما وجدت أهون عليك مني حين تبعث إلي بمال؟ وردّها. وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال: يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال اللّه فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف، فسكت معاوية.
وكان أبو ذر يقول: واللّه لقد حدثت أعمال ما أعرفها، واللّه ما هي في كتاب اللّه ولا سنة نبيه، واللّه إني لأرى حقاً يطفأ، وباطلاً يحيى، وصادقاً يكذب، وأثرة بغير تقى، وصالحاً مستأثراً عليه. فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إن أباذر مفسد عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة، فكتب معاوية إلى عثمان فيه، فكتب عثمان إلى معاوية: أما بعد فاحمل جندباً إلي على أغلظ مركب وأوعره، فوجّه معاوية من سار به اللّيل والنهار، فلمّا قدم أبوذر المدينة جعل يقول: يستعمل الصبيان ويحمي الحمى ويقرّب أولاد الطلقاء. فبعث إليه عثمان إلحق بأيّ أرض شئت، فقال: بمكة، فقال: لا، قال: فبيت المقدس، قال: لا، قال: فبأحد المصرين، قال: لا، ولكني مسيّرك إلى الربذة، فسيّر إليها، فلم يزل بها حتى مات.
ويقال: إن عثمان قال لأبي ذر حين قدم من الشام: قربنا يا أباذر خير لك من بعدنا، يغدى عليك باللقاح ويراح. فقال: لا حاجة لي في دنياكم، ولكني آتي الربذة، فأذن له في ذلك فأتاها ومات بها.
حدّثني محمد بن سعد عن الواقدي عن هشام بن الغار، حدّثنا مكحول قال: قدم حبيب بن مسلمة من أرمينية، فمرّ بأبي ذر بالربذة، فعرض عليه خادمين معه ونفقة، فأبى قبول ذلك، فقال له: ما أتى بك هاهنا؟ قال: نفسي، رأيت ما هاهنا أسلم لي.
حدّثني محمد عن الواقدي عن عبد اللّه بن سمعان عن أبيه أنه قيل لعثمان: إن أبا ذر يقول: إنك أخرجته إلى الربذة، فقال: سبحان اللّه، ما كان من هذا شيء قط، وإني لأعرف فضله وقديم إسلامه، وما كنّا نعدّ في أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وآله أكل شوكة منه.
وحدّثني عباس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف عن فضيل بن خديج عن كميل بن زياد قال: كنت بالمدينة حين أمر عثمان أبا ذر باللّحاق بالشام، وكنت بها في العام المقبل حين سيّره إلى الربذة.
وحدّثني بكر بن الهيثم عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: تكلّم أبو ذر بشيء كرهه عثمان فكذّبه فقال: ما ظننت أن أحداً يكذّبني بعد قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «ما أقلّت الغبراء ولا أطبقت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر»، ثم سيّره إلى الربذة. فكان أبوذر يقول: ما ترك الحق لي صديقاً، فلمّا سار إلى الربذة قال: ردّني عثمان بعد الهجرة أعرابياً.
قال: وشيّع علي أبا ذر، فأراد مروان منعه منه، فضرب علي بسوطه بين أذني راحلته، وجرى بين علي وعثمان في ذلك كلام حتى قال عثمان: ما أنت عندي بأفضل منه، وتغالظا، فأنكر الناس قول عثمان ودخلوا بينهما حتى اصطلحا.
وقد روي أيضاً: أنه لما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال: رحمه اللّه، فقال عمار بن ياسر: نعم فرحمه اللّه من كلّ أنفسنا، فقال عثمان: يا عاض أير أبيه، أتراني ندمت على تسييره؟ وأمر فدفع في قفاه وقال: إلحق بمكانه، فلما تهيّأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى علي فسألوه أن يكلّم عثمان فيه، فقال له علي: يا عثمان إتق اللّه، فإنك سيرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره، وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان: أنت أحق بالنفي منه، فقال علي: رم ذلك إن شئت، واجتمع المهاجرون فقالوا: إن كنت كلّما كلّمك رجل سيّرته ونفيته، فإن هذا شيء لا يسوغ، فكفّ عن عمار.
حدّثني محمد عن الواقدي عن موسى بن عبيدة عن ]عبد اللّه بن[ خراش الكعبي قال: وجدت أباذر بالربذة في مظلّة شعر فقال: ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يترك الحق لي صديقاً.
حدّثني محمد عن الواقدي عن شيبان النحوي عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قلت لأبي ذر: ما أنزلك الربذة قال: نصحي لعثمان ومعاوية.
محمد عن الواقدي عن طلحة بن محمد عن بشر بن حوشب الفزاري عن أبيه قال: كان أهلي بالشربة، فجلبت غنماً لي إلى المدينة فمررت بالربذة وإذا بها شيخ أبيض الرأس واللّحية، قلت: من هذا؟ قالوا: أبوذر صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وإذا هو في حفش ومعه قطعة من غنم، فقلت: واللّه ما هذا البلد بمحلّة لبني غفار، فقال: أخرجت كارهاً. فقال بشر بن حوشب فحدّثت بهذا الحديث سعيد بن المسيب، فأنكر أن يكون عثمان أخرجه وقال: إنما خرج أبو ذر إليها راغباً في سكناها.
وقال أبو مخنف: لما حضرت أباذر الوفاة بالربذة، أقبل ركب من أهل الكوفة فيهم جرير بن عبد اللّه البجلي، ومالك بن الحارث الأشتر النخعي، والأسود بن يزيد بن قيس بن يزيد النخعي، وعلقمة بن قيس بن يزيد عمّ الأسود في عدة آخرين، فسألوا عنه ليسلّموا عليه فوجدوه وقد توفي، فقال جرير: هذه غنيمة ساقها اللّه إلينا، فحنّطه جرير وكفّنه ودفنه وصلّى عليه ـ ويقال بل صلّى عليه الأشتر ـ وحملوا امرأته حتى أتوا بها المدينة، وكانت وفاته لأربع سنين بقيت من خلافة عثمان، وقال الواقدي: صلّى عليه ابن مسعود بالربذة في آخر ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين.
وحدّثنا عفان بن مسلم، حدّثنا معتمر بن سليمان، حدّثنا أيوب، حدّثنا سليمان بن المغيرة، حدّثنا حميد بن هلال: أن رفقة خرجوا من الكوفة لحجة أو عمرة فأتوا الربذة، فبعثوا رجلاً يشتري لهم شاة، فأتى على خباء فقال: هل عندكم جزرة؟ فقالت أم ذر: أو خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قالت: مات أبو ذر والناس خلوف، وليس عنده أحد يغسّله ويجنّه، وقد دعا اللّه أن يوفّق قوماً صالحين يغسّلونه ويدفنونه، فرجع الرجل فأعلمهم، فأقبلوا مسارعين ومعهم الكفن والحنوط، فقاموا بأمره حتى أجنوه.
وروى الواقدي عن هشيم في إسناده: أن أبا ذر رضي اللّه عنه مات، فقالت امرأته: بينا أنا جالسة عنده وقد توفي، إذ أقبل ركب فسلّموا فقالوا: ما فعل أبو ذر؟ قلت: هو هذا ميتاً قد عجزت عن غسله ودفنه، فأناخوا فحفروا له وغسّلوه. وأخرج جرير بن عبد اللّه حنوطاً وكفناً فحنطه وكفنه، ثم دفنوه وحملوها إلى المدينة، فقالت: حدّثني أبو ذر قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «إنك تموت بأرض غربة وأخبرني أنه يلي دفني رهط صالحون».
وحدّثت عن هشام عن العوام بن حوشب عن رجل من بني ثعلبة بن سعد قال: رأيت أبا ذر وقوم يقولون له فعل بك هذا الرجل وفعل، يعنون عثمان، فهل أنت ناصب لنا راية فتجتمع إلى الرجال؟ فقال: لو أن ابن عفان صلبني على أطول جذع لسمعت وأطعت واحتسبت وصبرت، فإنه من أذلّ السّلطان فلا توبة له، فراجعوا»(1).
(1) جملٌ من أنساب الأشراف 6 / 166 ـ 171.