أقول:
هذه القضيّة موجودة في سائر كتب الفقه والحديث والتاريخ والرجال، ولم ينكرها في الأصل أحدٌ من المتكلّمين، إلا أن مورد البحث منها «تلقين عمر» الشاهد الرابع «الامتناع من الشهادة»، فإن بعضهم لم يرووا هذه النقطة حفظاً لماء وجه عمر، وبعضهم لما رأى أن لا مناص من الإقرار به جعل يوجّهه.
وهذه هي القصّة كما رواها بعضهم:
قال قاضي القضاة ابن خلّكان الشافعي في تاريخه: «وأمّا حديث المغيرة بن شعبة الثقفي والشهادة عليه، فإن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كان قد رتّب المغيرة أميراً على البصرة، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار، وكان أبو بكرة يلقاه، فيقول: أين يذهب الأمير؟ فيقول: في حاجة، فيقول: إن الأمير يزار ولا يزور. قالوا: وكان يذهب إلى امرأة يقال لها: أم جميل بنت عمرو، وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي. وقال ابن الكلبي في كتاب «جمهرة النسب»: هي أم جميل بنت الأفقم بن محجن بن أبي عمرو بن شعبة بن الهرم، وعدادهم في الأنصار، وزاد غير ابن الكلبي، فقال: ألهرم بن رويبة بن عبد اللّه بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، واللّه أعلم.
قال الراوي: فبينما أبو بكرة في غرفة مع إخوته، وهم نافع وزياد المذكوران وشبل بن معبد، والجميع أولاد سميّة المذكورة، فهم إخوة لأم، وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة، فضربت الريح باب غرفة أم جميل ففتحته، ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع، فقال أبو بكرة: هذه بليّة قد ابتليتم بها فانظروا، فنظروا حتى أثبتوا، فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة، فقال له: إنه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا، قال: وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر، ومضى أبو بكرة فقال: لا واللّه لا تصلّي بنا وقد فعلت ما فعلت فقال الناس: دعوه فليصلّ فإنه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمر، فكتبوا إليه، فأمرهم أن يقدموا عليه جميعاً المغيرة والشهود.
فلمّا قدموا عليه جلس عمر، فدعا بالشهود والمغيرة، فتقدم أبو بكرة فقال له: رأيته بين فخذيها، قال: نعم واللّه لكأنّي أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها. فقال له المغيرة: لقد ألطفت في النظر، فقال أبو بكرة: لم آل أن أثبت ما يخزيك اللّه به. فقال عمر: لا واللّه حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة. فقال: نعم أشهد على ذلك، فقال: فاذهب عنك مغيرة، ذهب ربعك.
ثم دعا نافعاً فقال له: علام تشهد؟ قال: على مثل شهادة أبي بكرة. قال: لا حتى تشهد أنه ولج فيه ولوج الميل في المكحلة. قال: نعم حتى بلغ قذذه.
قلت: القذذ بالقاف المضمومة وبعدها ذالان معجمتان.
فقال عمر: إذهب عنك مغيرة، ذهب نصفك.
ثم دعا الثالث فقال له: على ما تشهد؟ فقال: على مثل شهادة صاحبي. فقال له عمر إذهب عنك مغيرة، ذهب ثلاثة أرباعك.
ثم كتب إلى زياد وكان غائباً، فقدم، فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار، فلما رآه مقبلاً قال: إنّي أرى رجلاً لا يخزي اللّه على لسانه رجلاً من المهاجرين، ثم إن عمر رفع رأسه إليه فقال: ما عندك يا سلح الحبارى؟ فقيل: إن المغيرة قام إلى زياد فقال: لا مخبأ لعطر بعد عروس.
قال الراوي: فقال له المغيرة: يا زياد، اذكر اللّه تعالى واذكر موقف يوم القيامة، فإن اللّه تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي، إلا أن تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت، فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر، فواللّه لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها.
قال: فدمعت عينا زياد، واحمرّ وجهه، وقال: يا أمير المؤمنين، أما إن أحقّ ما حقّ القوم فليس عندي، ولكن رأيت مجلساً، وسمعت نفساً حثيثاً، وانتهازاً، ورأيته مستبطنها، فقال له عمر رضي اللّه عنه: رأيته يدخل كالميل في المكحلة؟ فقال: لا. وقيل: قال زياد: رأيته رافعاً رجليها، فرأيت خصيتيه تردد إلى ما بين فخذيها ورأيت حفزاً شديداً، وسمعت نفساً عالياً، فقال عمر رضي اللّه عنه: رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا.
فقال عمر رضي اللّه عنه: اللّه أكبر، قم يا مغيرة إليهم فاضربهم، فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين، وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد، ودرأ الحدّ عن المغيرة.
فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا، فهمّ عمر رضي اللّه عنه أن يضربه حدّاً ثانياً، فقال له علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: إن ضربته فارجم صاحبك، فتركه، واستتاب عمر أبا بكرة فقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي، فقال: أجل، فقال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا.
فلما ضربوا الحدّ قال المغيرة: اللّه أكبر، الحمد للّه الذي أخزاكم، فقال عمر رضي اللّه: بل أخزى اللّه مكاناً رأوك فيه.
وذكر عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة: أن أبا بكرة لمّا جلد، أمرت أمّه بشاة فذبحت، وجعلت جلدها على ظهره، فكان يقال: ما ذاك إلا من ضرب شديد.
وحكى عبد الرحمن بن أبي بكرة: أن أباه حلف لا يكلّم زياداً ما عاش.
فلمّا مات أبو بكرة كان قد أوصى أن لا يصلّي عليه زياد وأن يصلّي عليه أبو برزة الأسلمي، وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم آخى بينهما، وبلغ ذلك زياداً فخرج إلى الكوفة.
وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره.
ثم إن أم جميل وافت عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بالموسم، والمغيرة هناك فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة؟ قال: نعم، هذه أم كلثوم بنت علي، فقال عمر: أتتجاهل عليّ؟ واللّه ما أظن أبا بكرة كذب عليك، وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء.
قلت: ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهود في كتاب «المهذب»: وشهد على المغيرة ثلاثة: أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد، وقال زياد: رأيت استاً تنبو، ونفساً يعلو، ورجلين كأنهما أذنا حمار، ولا أدري ما وراء ذلك. فجلد عمر الثلاثة، ولم يحد المغيرة.
قلت: وقد تكلّم الفقهاء على قول علي رضي اللّه عنه لعمر: «إن ضربته فارجم صاحبك»، فقال أبو نصر بن الصباغ المقدّم ذكره، وهو صاحب كتاب «الشامل في المذهب»: يريد أن هذا القول إن كان شهادة أخرى فقد تم العدد، وإن كان هو الأول فقد جلدته عليه، واللّه أعلم.
وذكر عمر بن شبة في أخبار البصرة أنّ العباس بن عبد المطلب رضي اللّه عنه قال لعمر رضي اللّه عنه: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أقطعني البحرين، فقال: ومن يشهد لك بذلك؟ قال: المغيرة بن شعبة، فأبى أن يجيز شهادته»(1).
وذكر أبو الوليد بن شحنة الحنفي هذه القصّة في حوادث السنة 17 من تاريخه.
وقال النووي بترجمة زياد بن أبيه في تهذيب الأسماء:
«زياد بن سميّة المذكور في المهذّب في مواضع من كتاب الحدود. وهو أحد الأربعة الشهود بالزنا…»(2).
وقال ابن أبي الحديد:
«قلت: أما المغيرة، فلا شك عندي أنه زنا بالامرأة، ولكني لست أخطّىء عمر في درء الحدّ عنه…»(3).
قال: «وقد روى المدائني: إن المغيرة كان أزنى الناس في الجاهليّة، فلمّا دخل في الإسلام قيّده الإسلام، وبقيت عنده منه بقية ظهرت في أيام ولاية البصرة»(4).
وقال ابن حبّان:
«وبعد موت عتبة بن غزوان والي البصرة، أمّر عمر على البصرة أبا موسى الأشعري. وكان المغيرة على بها، فشهد أبو بكرة وشبل بن معبد البجلي ونافع وزياد على المغيرة بما شهدوا، فبعث عمر إلى أبي موسى الاشعري أن أشخص إليَّ المغيرة. ففعل ذلك أبو موسى»(5).
وقد روى أبو الفرج الإصفهاني القصّة بالأسانيد فقال:
«قضية الزنا: حدّثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قالا: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثنا علي بن محمد النوفلي، عن محمد بن سليمان الباقلاني، عن قتادة، عن غنيم بن قيس، قال:
كان المغيرة بن شعبة يختلف إلى امرأة من ثقيف يقال لها الرقطاء، فلقيه أبو بكرة، فقال له: أين تريد؟ قال: أزور آل فلان. فأخذ بتلابيبه وقال: إن الأمير يزار ولا يزور.
وحدّثنا بخبره لمّا شهد عليه الشهود عند عمر رضي اللّه عنه: أحمد بن عبيد اللّه بن عمار وأحمد بن عبد العزيز، قالا: حدّثنا عمر بن شبة، فرواه عن جماعة من رجاله، بحكايات متفرقة.
قال عمر بن شبة: حدّثني أبو بكر العليمي، قال: أخبرنا هشام، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن، عن أبيه، عن أبي بكرة.
قال عمر بن شبة: وحدّثنا عمرو بن عاصم، قال: حدّثنا حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة.
قال أبو زيد عمر بن شبّة: وحدّثنا علي بن محمد بن حباب بن موسى، عن مجالد، عن الشعبي.قال: وحدّثنا محمد بن عبد اللّه الأنصاري، قال: حدّثنا عوف، عن قسامة بن زهير.
قال أبو زيد عمر بن شبّة: قال الواقدي: حدّثنا عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكرة، عن أبيه، عن مالك بن أوس بن الحدثان.
قال: وحدّثني محمد بن الجهم، عن علي بن أبي هاشم، عن إسماعيل بن أبي عبلة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك:
أن المغيرة بن شعبة كان يخرج من دار الإمارة وسط النهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول له: أين يذهب الأمير؟ فيقول: آتي حاجة. فيقول له: حاجة ماذا؟ إن الأمير يزار ولا يزور.
قال: وكانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة. قال: فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أصحابه وأخويه نافع وزياد، ورجل آخر يقال له شبل بن معبد، وكانت غرفة جارته تلك بحذاء غرفة أبي بكرة. فضربت الريح باب المرأة ففتحته. فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها. فقال أبو بكرة: هذه بلية ابتليتم بها، فانظروا. فنظروا حتى أثبتوا. فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة، فقال له: إنه قد كان من أمرك ما قد علمت، فاعتزلنا. قال: وذهب ليصلّي بالناس الظهر، فمنعه أبو بكرة، وقال له: لا واللّه لا تصلّي بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس: دعوه فليصلّ، فإنه الأمير، واكتبوا بذلكم إلى عمر. فكتبوا إليه، فورد كتابه بأن يقدموا عليه جميعاً، المغيرة والشهود.
وقال المدائني في حديثه عن حباب بن موسى: وبعث عمر بأبي موسى الأشعري على البصرة. وعزم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة بن شعبة. قال: قال علي بن هاشم في حديثه: إن أبا موسى قال لعمر لمّا أمره أن يرحّله من وقته: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين: نتركه يتجهّز ثلاثاً، ثم يخرج.
قال: فصلّينا صلاة الغداة بظهر المربد، ودخلنا المسجد، فإذا هم يصلّون: الرجال والنساء مختلطين. فدخل رجل على المغيرة، فقال له: إني رأيت أبا موسى في جانب المسجد، عليه بُرْنُس. فقال له المغيرة: ما جاء زائراً ولا تاجراً. فدخلنا عليه ومعه صحيفة ملء يده، فلما رآنا قال: الأمير؟ فأعطاه أبو موسى الكتاب. فلما قرأه ذهب يتحرّك عن سريره. فقال له أبو موسى: مكانك، تجهّز ثلاثاً. وقال الآخرون: إن أبا موسى أمره أن يرحل من وقته.
فقال له المغيرة: لقد علمت ما وجهت فيه، فألاّ تقدّمت فصلّيت. فقال له أبو موسى: ما أنا وأنت في هذا الأمر إلا سواء. فقال له: المغيرة: فإني أحبّ أن أقيم ثلاثاً لأتجهز. فقال: قد عزم علي أمير المؤمنين ألا أضع عهدي من يدي إذا قرأته عليك، حتى أرحّلك إليه. قال: إن شئت شفعتني وأبررت قسم أمير المؤمنين. قال: وكيف؟ قال: تؤجلني إلى الظهر، وتمسك الكتاب في يدك. قالوا: فقد رئى أبو موسى يمشي مقبلاً ومدبراً وإن الكتاب لفي يده معلّقاً بخيط. فتجهز المغيرة، وبعث إلى أبي موسى بعقيلة، جارية عربية من سبي اليمامة، من بني حنيفة; ويقال إنها مولدة الطائف، ومعها خادم لها. وسار المغيرة حين صلّى الظهر، حتى قدم على عمر. وقال في حديث محمد بن عبد اللّه الأنصاري: فلما قدم على عمر. قال له: إنه قد شهد عليك بأمر إن كان حقاً لأن تكون متّ قبل ذلك كان خيراً لك.
قال أبو زيد: وحدّثني الحكم بن موسى، قال: حدّثنا يحيى بن حمزة، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة، عن عبد اللّه بن عبد الرحمن الأنصاري، عن مصعب بن سعد:
أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه جلس، ودعا المغيرة والشهود. فتقدّم أبو بكرة. فقال له: أرأيته بين فخذيها، قال: نعم واللّه لكأني أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها. فقال له المغيرة: لقد ألطفت النظر. فقال له: لم آل أن أثبت ما يخزيك اللّه به؟ فقال له عمر: لا واللّه حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه كما يلج المرود في المُكْحُلة. فقال: نعم أشهد على ذلك. فقال له: إذهب عنك مغيرة، ذهب ربعك.
ثم دعا نافعاً فقال له: علام تشهد؟ قال: على مثل شهادة أبي بكرة. قال: لا، حتى تشهد أنه كان يلج فيه ولوج المرود في المكحلة. فقال: نعم حتى بلغ قذذه. فقال: إذهب عنك مغيرة، ذهب نصفك.
ثم دعا الثالث، فقال: علام تشهد؟ فقال: على مثل شهادة صاحبيّ. فقال له علي بن أبي طالب عليه السلام: إذهب عنك مغيرة، ذهب ثلاثة أرباعك.
قال: حتى مكث يبكي إلى المهاجرين، فبكوا. وبكى إلى أمهات المؤمنين، حتى بكين معه، وحتى لا يجالس هؤلاء الثلاثة أحد من أهل المدينة.
قال: ثم كتب إلى زياد، فقدم على عمر. فلما رآه جلس له في المسجد، واجتمع إليه رؤوس المهاجرين والأنصار. قال المغيرة: ومعي كلمة قد رفعتها لأكلّم القوم. قال: فلما رآه عمر مقبلاً قال: إني لأرى رجلاً لن يخزي اللّه على لسانه رجلاً من المهاجرين.
قال أبو زيد: وحدّثنا عفان، قال: حدّثنا السري بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الكريم بن رشيد، عن أبي عثمان النهدي، قال:
لما شهد عند عمر الشاهد الأول على المغيرة، تغيّر لذلك لون عمر. ثم جاء آخر فشهد، فانكسر لذلك انكساراً شديداً. ثم جاء رجل شاب يخطر بين يديه فرفع عمر رأسه إليه، وقال له: ما عندك يا سلح العقاب. وصاح أبو عثمان صيحة تحكي صيحة عمر. قال عبد الكريم: لقد كدت أن يغشى علي.
وقال آخرون: قال المغيرة: فقمت إلى زياد، فقلت له: لا مخبأ لعطر بعد عروس. ثم قلت: يا زياد، اذكر اللّه، واذكر موقف يوم القيامة، فإن اللّه وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي، إلا أن تتجاوز إلى ما لم تر ما رأيت، فلا يحملك شرّ منظر رأيته على أن تتجاوزه إلى ما لم تر، فواللّه لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أين سلك ذكري منها. قال: فترنقت عيناه، واحمرّ وجهه، وقال: يا أمير المؤمنين، أما أن أحق ما حقّ القوم فليس ذلك عندي; ولكني رأيت مجلساً قبيحاً، وسمعت نفساً حثيثاً وانبهاراً، ورأيته مستبطنها. فقال له: أرأيته يدخله كالميل في المكحلة. فقال: لا.
وقال غير هؤلاء: إن زياداً قال له: رأيته رافعاً برجليها. ورأيت خصيتيه تترددان بين فخذيها، ورأيت حفزاً شديداً، وسمعت نفساً عالياً. فقال له: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا. فقال عمر: اللّه أكبر. قم إليهم فاضربهم. فقام إلى أبي بكرة، فضربه ثمانين، وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد، ودرأ عن المغيرة الرجم.
فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: فإني أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا. فهمّ عمر بضربه، فقال له علي عليه السلام: إن ضربته رجمت صاحبك. ونهاه عن ذلك.
قال: يعني أنه إن ضربه جعل شهادته بشهادتين، فوجب ذلك الرّجم على المغيرة.
قال: واستتاب عمر أبا بكرة. فقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي. قال: أجل. قال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا.
قال: فلمّا ضربوا الحدّ، قال المغيرة: اللّه أكبر، الحمد للّه الذي أخزاكم. فقال له عمر: اسكت أخزى اللّه مكاناً رأوك فيه.
قال: وأقام أبو بكرة على قوله، وكان يقول: واللّه ما أنسى رقط فخذيها.
قال: وتاب الاثنان، فقبلت شهادتهما.
قال: وكان أبو بكرة بعد ذلك إذا دعي إلى شهادة يقول: اطلب غيري، فإن زياداً قد أفسد علي شهادتي.
قال أبو زيد: وحدّثني سليمان بن داود بن علي، قال: حدّثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، قال:
لما ضرب أبو بكرة أمرت اُمّه بشاة فذبحت، وجعلت جلدها على ظهره. قال: فكان أبي يقول: ماذاك إلا من ضرب شديد.
حدّثنا ابن عمار والجوهري قالا: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا علي بن محمد، عن يحيى بن زكريا، عن مجالد، عن الشعبي، قال:
كانت أم جميل بنت عمر، التي رمي بها المغيرة بن شعبة بالكوفة، تختلف إلى المغيرة في حوائجها، فيقضيها لها. قال: ووافقت عمر بالموسم والمغيرة هناك، فقال له عمر: أتعرف هذه؟ قال: نعم; هذه أم كلثوم بنت علي. فقال له عمر: أتتجاهل علىّ؟ واللّه ما أظن أبا بكرة كذب عليك، وما رأيت إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء.
حدّثني أحمد بن الجعد، قال: حدّثنا محمد بن عباد، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، قال:
قال علي بن أبي طالب عليه السلام: لئن لم ينته المغيرة لاتبعنّه أحجاره. وقال غيره: لئن أخذت المغيرة لأتبعنّه أحجاره.
(1) وفيات الأعيان 6 / 364 ـ 367.
(2) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 198.
(3) شرح نهج البلاغة 12 / 231.
(4) شرح نهج البلاغة 12 / 239.
(5) الثقات 2 / 216.