وأما المقام الثاني، فإن الثابت عن عمر بن الخطاب أنه لم يكن يعتقد بالشورى ولا غيرها إلا النصُّ.
وأيضاً، فإنه ما كان يعتقد باشتراط كون الإمام من قريش.
وأيضاً، فإنه ما كان يعتقد باشتراط كون الإمام حرّاً.
وأيضاً: فإنه ما كان يعتقد باشتراط الأفضلية في الإمام.
وهذه الأمور نستكشفها من أسفه على عدم وجود سالم مولى أبي حذيفة في ذلك الوقت:
لقد رووا في الكتب المعتبرة عن عمر أنه قال: «لو كان سالم حيّاً ما جعلتها شورى» وذلك بعد أن طعن، فجعلها شورى(1).
فمن هو سالم؟
هو: سالم بن معقل، مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. من أهل فارس من اصطخر، وقيل: من عجم الفرس من كرمه، قالوا: كان من فضلاء الموالي ومن خيار الصحابة، أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة، فتولّى أبا حذيفة وتبنّاه أبو حذيفة، كان عمر بن الخطاب يفرط في الثناء عليه، قتل يوم اليمامة سنة 12 من الهجرة(2).
ولما كان استخلاف عمر إيّاه ـ لو كان حيّاً ـ على خلاف القواعد العقليّة والنقليّة عندهم في الإمامة، اضطرّ بعضهم إلى تأويل كلام عمر:
قال ابن عبد البر: «وهذا عندي على أنه كان يصدر فيها عن رأيه».
وتبعه ابن تيمية إذ قال: «وأمّا ما يروى من ذكره لسالم مولى أبي حذيفة، فقد علم أن عمر وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الإمامة في قريش… بل من الممكن، أنه كان يولّيه ولايةً جزئية أو يستشيره فيمن يولّي ونحو ذلك…»(3).
وهذا التأويل ـ على ما فيه من النظر ـ مخالف لظاهر الكلام وبعيد عنه كلّ البعد، ولذا، فقد ورد كلامه بلفظ أوضح وأصرح، فيما رواه عدّة من الأعلام وهو قوله: «لو كان سالم حيّاً لما تخالجني فيه الشك»(4).
بل جاء الكلام نصّاً في الاستخلاف في رواية بعضهم ـ وأظنه هو الأصل إلا أنهم حرّفوه إلى اللّفظين المتقدمين ـ فقد روى الزيلعي أنه قال:
«لو كان سالم حيّاً لاستخلفته»(5).
بل في رواية ابن سعد: «لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة بن الجرّاح»(6).
وعلى الجملة، فإنه كان يرى النصّ لا غير، ولو كان سالم حيّاً لنصّ عليه واستخلفه، والسؤال الآن هو: إنه لماذا لم ينصّ على أحد من الصّحابة؟ أما كان يرى لها أهلاً غير سالم مولى أبي حذيفة؟
لماذا جعلها شورى على خلاف عقيدته، وخالف فيه من تقدّمه؟
لكن الحقيقة هي أنه في الواقع لم يعمل على خلاف رأيه، إذ الشورى التي طرحها كانت صوريّة، وهو كان قد عهد بالأمر إلى عثمان، فكان يريده ولا يريد غيره أبداً. كما سيظهر… بل لقد اشتهر ذلك في حياة عمر، والشواهد على ذلك كثيرة، وقد تضمّن شرح ابن حجر العسقلاني لحديث البخاري بعضها حيث قال:
«قوله: فلمّا اجتمعوا تشهّد عبدالرّحمن.
وفي رواية إبراهيم بن طهمان: جلس عبدالرحمن على المنبر. وفي رواية سعيد بن عامر: فلمّا صلّى صهيب بالناس صلاة الصبح، جاء عبدالرحمن يتخطّى حتى صعد المنبر، فجاء رسول سعد يقول لعبد الرحمن: ارفع رأسك وانظر لاُمّة محمد وبايع لنفسك.
قوله: أمّا بعد.
زاد سعيد بن عامر: فأعلن عبد الرحمن، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد، يا علي، إني نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان. أي: لا يجعلون له مساوياً بل يرجّحونه.
قوله: فلا تجعلنّ على نفسك سبيلاً.
أي: من الملامة إذا لم توافق الجماعة. وهذا ظاهر في أنّ عبدالرحمن لم يتردّد عند البيعة في عثمان. ولكنْ قد تقدّم في رواية عمرو بن ميمون التصريح بأنه بدأ بعلي فأخذ بيده فقال: لك قرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والقدم في الإسلام ما قد علمت، واللّه عليك لئن أمّرتك لتعدلنَّ، ولئن أمّرت عثمان لتسمعنّ ولتطيعنّ. ثمّ خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلمّا أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه وبايع له علي.
وطريق الجمع بينهما: إن عمرو بن ميمون حفظ ما لم يحفظه الآخر. ويحتمل أن يكون الآخر حفظه لكن طوى بعض الرواة ذكره. ويحتمل: أنْ يكون ذلك وقع في اللّيل لمّا تكلّم معهما واحد بعد واحد فأخذ على كلٍّ منهما العهد والميثاق، فلما أصبح عرض على علي فلم يوافقه على بعض الشروط وعرض على عثمان فقبل. ويؤيّده رواية عاصم بن بهدلة عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم عليّاً؟ فقال: ما ذنبي، بدأت بعليّ فقلت له: اُبايعك على كتاب اللّه وسنّة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر، فقال: فيما استطعت. وعرضتها على عثمان فقبل. أخرجه عبداللّه بن أحمد في زيادات المسند عن سفيان بن وكيع عن أبي بكر بن عياش عنه. وسفيان بن وكيع ضعيف.
وقد أخرج أحمد من طريق زائدة عن عاصم عن أبي وائل قال: قال الوليد بن عقبة لعبد الرحمن بن عوف: مالك جفوت أمير المؤمنين ـ يعنى عثمان ـ ؟ فذكر قصّة وفيها قول عثمان: وأمّا قوله سيرة عمر، فإني لا اُطيقها ولا هو. وفي هذا إشارة إلى أنه بايعه على أنْ يسير سيرة عمر، فعاتبه على تركها. ويمكن أن يؤخذ من هذا ضعف رواية سفيان بن وكيع، إذ لو كان استخلف بشرط أن يسير بسيرة عمر لم يكن ما أجاب به عذراً في الترك.
قال ابن التين: وإنما قال لعلي ذلك دون من سواه، لأن غيره لم يكن يطمع في الخلافة مع وجوده ووجود عثمان، وسكوت من حضر من أهل الشورى والمهاجرين والأنصار واُمراء الأجناد، دليلٌ على تصديقهم عبد الرحمن فيما قال وعلى الرّضا بعثمان.
قلت: وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق حارثة بن مضرب قال: حججت في خلافة عمر، فلم أرهم يشكّون أن الخليفة بعده عثمان. وأخرج يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق صحيح قال قال لي عمر: من ترى قومك يؤمّرون بعدي؟ قال قلت: قد نظر الناس إلى عثمان وشهروه لها.
وأخرج البغوي في معجمه وخيثمة في فضائل الصحابة بسند صحيح، عن حارثة بن مضرب: حججت مع عمر، فكان الحادي يحدو أنّ الأمير بعده عثمان بن عفان.
قوله: فقال.
أي: عبدالرحمن مخاطباً لعثمان: اُبايعك على سنّة اللّه وسنّة رسوله والخليفتين من بعده. فبايعه»(7).
أقول:
ومن الشواهد أيضاً ما أخرجه ابن عساكر، قال:
«قرأت على أَبي غالب بن البنّا، عن أَبي مُحَمَّد الجوهري، أَنا أَبُو عمر بن حَيَّوية، أَنا أَحْمَد بن معروف، نا الحُسَيْن بن الفهم، نا مُحَمَّد بن سعد، أَنا الوليد بن عطاء بن الأغرّ، وأَحْمَد بن مُحَمَّد بن الوليد الأَزْرقي، قالا: نا عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي، عن جدّه أن سعيد بن العاص أتى عمر يستزيده في داره التي بالبلاط، وخِطَط أعمامه مع رسول اللّه فقال عمر: صلِّ الغداة معي وَغَبِّشْ ]ثم[ اذكرني حاجتك قال: ففعلت حتى إذا هو انصرف قلت: يا أمير المؤمنين حاجتي التي أمرتني أن أذكرها لك، قال: فوثب معي ثم قال: امضِ نحو داره حتى انتهيت إلهيا فزادني وخطّ لي برجله فقلت: يا أمير المؤمنين زدني فإنه نبتت لي نابتة من ولد وأهل. فقال: حسبك. وأَختبىءُ عندك أن سيلي هذا الأمر بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك، قال: فمكثتُ خلافة عمر بن الخطاب حتى استُخلف عثمان وأخذها عن شورى ورضاً، فوصلني وأحسن وقضى حاجتي وأشركني في أمانته»(8).
وبعد، فلماذا الشورى الصّوريّة؟
إنه قد اضطر إلى ذلك وبمشورة من عبد الرحمن بن عوف، لمّا أبلغه كلام القائلين في منى: «لو مات عمر لبايعنا علياً». وقد تقدّم منا بعض الكلام حول ذلك.
(1) الاستيعاب 2 / 568، الوافي بالوفيات 15 / 58، عمدة القاري في شرح البخاري 16 / 246.
(2) تأويل مختلف الحديث 285، المحصول في علم الأصول 4 / 322 شرح نهج البلاغة 16 / 266 وغيرها.
(3) منهاج السنّة 6 / 151.
(4) تأويل مختلف الحديث: 285، المحصول في علم الأصول 4 / 322 شرح نهج البلاغة 16 / 265 وغيرها.
(5) تخريج الأحاديث والآثار 2 / 250 رقم 687.
(6) الطبقات الكبرى 3 / 343.
(7) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13 / 168.
(8) تاريخ دمشق ـ ترجمة سعيد بن العاص 21 / 119، ولعلّها: في إمامته.