أقول:
إن هذه القضيّة مهمّة جدّاً، فإنه إذا كان أبو بكر في جيش أسامة، فإن الإشكال يثبت، وإمامته بعد رسول اللّه تسقط، لما تقدّم من وجوه الإشكال، ويسقط أيضاً استدلالهم بما رووه من أمر النبي صلّى اللّه عليه وآله بالصّلاة في مكانه، لوضوح كذب تلك الأحاديث كلّها، فلا مناص لهم من إنكار كونه في جيش أسامة، حتى يتخلّصوا من الإشكال، وليتمكنوا من الإستدلال بحديث الصّلاة، على ما سيأتي توضيحه قريباً. فالقضية مهمّة جدّاً… .
أمّا ابن تيمية، فقد تعوّد إنكار الحقائق ونفي الثوابت… وقد رأينا كيف يصرّ على التكذيب ويدّعي الإجماع عليه…!!
إلا أنها جرأة عظيمة لا يقدم عليها من يخاف اللّه والدار الآخرة والحساب على ما يلفظ من قول أو يكتب من كتاب!
ولذا نرى كلمات القوم مختلفةً!
فمنهم: من يلتجأ إلى الإنكار لكن بلا إصرار، كابن كثير، فجاءت كلمته أهون من كلام شيخه، فإنه يقول:
«وقد انتدب كثير من الكبار من المهاجرين الأوّلين والأنصار في جيشه، فكان من أكبرهم عمر بن الخطاب. ومن قال: إن أبا بكر كان فيهم فقد غلط، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اشتدّ به المرض وجيش أسامة مخيّم بالجرف، وقد أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أبا بكر أن يصلّي بالناس كما سيأتي، فكيف يكون في الجيش وهو إمام المسلمين بإذن الرسول من ربّ العالمين؟
ولو فرض أنه كان قد انتدب معهم، فقد استثناه الشارع من بينهم بالنصّ عليه للإمامة في الصّلاة التي هي أكبر أركان الاسلام»(1).
فهو لا يقول «كذب» فضلاً عن أن يدّعي الإجماع، وإنما يقول: «غلط» ودليله هو «الصّلاة»، ثم على فرض كونه في الجيش يجيب عن الإشكال بوجه سيأتي الكلام عليه.
ومنهم: من يختلف كلامه، كالذهبي، فإنه قال في سيره: «استعمله النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لغزو الشام، وفي الجيش عمر والكبار، فلم يسر حتى توفي رسول اللّه»(2).
أمّا في تاريخ الإسلام، فقد نصّ على وجود أبي بكر كما سيأتي.
وكابن حجر العسقلاني، فقد أجمل الكلام في الإصابة إذ قال: «وكان أمّره على جيش عظيم، فمات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن يتوجّه»(3).
أمّا في تهذيب التهذيب، فقد نصّ على وجود أبي بكر كما سيأتي.
ومنهم: من ترجم لأسامة ولم يتعرّض لقضية بعثه أصلاً، كابن عبد البر!(4)
ومنهم: من يتعرّض للبعث لا بصورة مستقلّة، بل في سياق روايات، كأبي الربيع الكلاعي الأندلسي حيث يقول: «وعن عروة بن الزبير وغيره من العلماء: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، وقد كان الناس قالوا في إمرة أسامة أمّر غلاماً حدثاً على جلّة المهاجرين والأنصار. فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته، لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة، وأن كان أبوه لخليق بها. ثم نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وانكمش الناس في جهازهم.
واستعزّ برسول اللّه وجعه، فخرج أسامة وخرج جيشه معه، حتى نزلوا الجرف من المدينة على فرسخ، فضرب به عسكره وتتامّ إليه الناس.
وثقل رسول اللّه فأقام أسامة والناس، لينظروا ما اللّه قاض في رسوله عليه السلام»(5).
ومنهم من يذكر البعض وأن فيهم عمر بن الخطاب، فلا يذكر أبا بكر ولا ينفي… كابن الأثير فإنه قال: «أما أسامة، فإن النبي استعمله على جيش، وأمره أن يسير إلى الشام أيضاً، وفيهم عمر بن الخطاب، فلما اشتدّ المرض برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أوصى أن يسير جيش أسامة…»(6).
لكن وجود أبي بكر في جيش أسامة من القضايا الثابتة التي لا تقبل الجدل أبداً، وقد روى ذلك كبار المؤرّخين والمحدّثين من أهل السنّة:
كالبلاذري(7) والواقدي وابن سعد وابن إسحاق وابن الجوزي وابن عساكر، كما نقل عنهم الحافظ ابن حجر في شرح البخاري(8).
وابن سيّد الناس(9).
والذهبي، قال: «استعمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على جيش فيه أبو بكر وعمر، فلم ينفذ حتى توفي النبي…»(10).
والمزّي، حيث قال: «استعمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على جيش فيه أبو بكر وعمر…»(11).
وابن حجر العسقلاني، إذ قال: «استعمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على جيش فيه أبو بكر و عمر…»(12).
والصالحي الدمشقي، قال: «… فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأوّلين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة. منهم: أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص…»(13).
وابن الأثير الجزري في تاريخه(14).
ونور الدين الحلبي في سيرته(15).
فتلخّص: أن أبا بكر كان في جيش أسامة كعمر بن الخطاب ـ الذي اعترف بوجوده ابن تيمية كغيره ـ وأنه لا فائدة في المكابرة والإنكار، ولذا نرى أن صاحب التحفة الإثنا عشرية لا يقلّد ابن تيمية في هذه القضية، بل يقلّد تلميذه ابن كثير في دعوى الإستثناء، فيذعن بوجوده في الجيش إلا أن أمره بالخروج قد نسخ بنصبه للإمامة(16).
ولكن الإنكار كان خيراً له من هذا الوجه، لأن تلك الصّلاة التي يزعمون أن النبي صلّى اللّه عليه وآله أمر أبا بكر بأن يصلّي بالناس في مكانه، إن كانت صلاةً واحدةً، فقد ثبت في صحاحهم أنه صلّى اللّه عليه وآله قد خرج بين رجلين، وصلّى تلك الصّلاة بنفسه، فاضطروا إلى دعوى أنه صلّى في مكان النبي أياماً، لكنه كان يأمر بإنفاذ جيش أسامة إلى آخر ساعة من حياته، فكيف يتقدّم الناسخ على المنسوخ؟ بل الأمر بالعكس، فلو كان قد أمره بالصّلاة فقد نسخ بأمره بالخروج مع أسامة.
لكن الحق أن صلاة أبي بكر لم تكن بأمر من النبي صلّى اللّه عليه وآله مطلقاً كما سيأتي! وقد حقّقنا ذلك في رسالة مفردة أيضاً. والحمد للّه.
وأما سائر المعاذير التي ذكرها القاضي عبد الجبّار وغيره، فهي أوهن من بيت العنكبوت، ولا تليق للبحث والنظر، ولعلّه من هنا جاء في التحفة الإثنا عشرية بعد ذكره بعض التعلّلات: «فالإمام لو خالف أمراً واحداً فلا ضير. فتدبّر».
هذا، ولنا رسالة مستقلّة في قضية بعث أسامة، نسأل اللّه التوفيق لإتمامها ونشرها.
(1) السيرة النبوية 4 / 441.
(2) سير أعلام النبلاء 2 / 497.
(3) الاصابة في معرفة الصحابة 1 / 202.
(4) الاستيعاب 1 / 75.
(5) الاكتفاء بما تضمنّه من مغازي رسول اللّه والثلاثة الخلفاء 2 / 38.
(6) أسد الغابة 1 / 66.
(7) أنساب الأشراف 1 / 474.
(8) فتح الباري في شرح البخاري 8 / 152.
(9) عيون الأثر 2 / 352.
(10) تاريخ الإسلام. المغازي: 340.
(11) تهذيب الكمال 2 / 340.
(12) تهذيب التهذيب 1 / 182 ترجمة أسامة.
(13) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 6 / 248.
(14) الكامل في التاريخ 3 / 317.
(15) السيرة الحلبية 3 / 227.
(16) التحفة الإثنا عشرية: 265، ومختصر التحفة: 272.