وأما الوجه الخامس، ففيه: إنه يتوقف:
أوّلاً: على تمامية هذا الحديث سنداً.
وثانياً: على تمامية دلالته على وجوب اتّباع سيرة الخلفاء وإن كانت مخالفة لسيرة النبي صلّى اللّه عليه وآله.
وثالثاً: على أن يكون المراد من «الخلفاء الراشدين المهديين» شاملاً لعثمان وأمثاله.
أمّا الأمر الأول، فقد بيّناه في الفصل السابق، وعرفت أن الحديث باطل موضوع.
وأمّا الأمران الثاني والثالث، فسنذكرهما في هذا الفصل.
لكن المحققين من القوم لم يوافقوا على دلالة الحديث على وجوب متابعة سيرة الخلفاء ـ حتى بناء على أن المراد خصوص الأربعة ـ فيما لو خالفت سيرتهم السيرة النبوية الكريمة ـ كما في مسألتنا هذه ـ فإن عثمان خالف فيها النبي صلّى اللّه عليه وآله، وخالف أيضاً أبا بكر وعمر، لا سيما وأن غير واحد منهم يخصص حديث: «عليكم بسنتي…» بحديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(1).
فيكون قد أمر صلّى اللّه عليه وآله بمتابعة سيرته وسيرة أبي بكر وعمر فقط…!!
وعلى هذا الأساس، أبطلوا استدلال الحنفية وأجابوا عنه بكلمات قاطعة:
قال المباركفوري: «ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته.
وقال القاري في المرقاة: فعليكم بسنتي. أي بطريقتي الثابتة عني واجباً، أو مندوباً، وسنة الخلفاء الراشدين، فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي، فالإضافة إليهم إما لعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها.
وقال صاحب سبل السلام: أمّا حديث «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين بعدي، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ». أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصحّحه الحاكم وقال: على شرط الشيخين.
ومثله حديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». أخرجه الترمذي وقال: حسن. وأخرجه أحمد وابن ماجة وابن حبان، وله طريق فيها مقال إلا أنه يقوي بعضها بعضاً.
فإنه ليس المراد بسنّة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدّين ونحوها.
فإن الحديث عام لكلّ خليفة راشد لا يخصّ الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبيّ… .
قال المباركفوري: «إن الاستدلال على كون الأذان الثالث الذي هو من مجتهدات(2) عثمان أمراً مسنوناً ليس بتام…»(3).
ثم إنهم أطالوا الكلام عن معنى البدعة، فقال هؤلاء ـ في الجواب عمّا ذكر ابن حجر وغيره ـ بأنه:
«لو كان الاستدلال تامّاً وكان الأذان الثالث أمراً مسنوناً، لم يطلق عليه لفظ البدعة، لا على سبيل الإنكار ولا على سبيل غير الإنكار، فإن الأمر المسنون لا يجوز أن يطلق عليه لفظ البدعة بأي معنى كان»(4).
وتلخص: أن لا توجيه لما أحدث عثمان، لا عن طريق هذا الحديث ـ على فرض صحته ـ ولا عن طريق آخر من الطرق المذكورة.
وبما ذكرنا يظهر النظر في كلام ابن تيمية، فإنه يتلخّص في دعوى موافقة أمير المؤمنين والصحابة على ذلك، وفي المناقشة في معنى «البدعة»… ولا حاجة الى الإعادة.
قال قدّس سرّه: وقد ذكر الشهرستاني ـ وهو أشدّ المبغضين(5) على الإماميّة: إنّ مثار الفساد بعد شبهة إبليس: الاختلافات الواقعة… فانظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل، هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعدّاهم؟
الشرح:
أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548، من شيوخ المتكلّمين الأشاعرة المخالفين للإماميّة، كما لا يخفى على من يراجع كتبه مثل (نهاية الإقدام في علم الكلام) و(الملل والنحل).
وقد جعل عمدة الاختلافات تسعة وقائع، ابتداءً بما وقع في أيّام مرض النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من قضية الدواة والقرطاس، وجيش اُسامة، ثم ما وقع بعد موته، ثم ذكر الإمامة وقال بأنه أعظم خلاف وقع بين الاُمّة، ثم قضايا أبي بكر وقضايا عثمان، ثم خروج طلحة والزبير على أمير المؤمنين بعد البيعة له.
وهذه الخلافات كلّها ناشئة من المشايخ، فهم أسباب الفتنة في الإسلام، ولا تجد أمير المؤمنين عليه السلام أو سائر أهل البيت سبباً في واحدة منها… وهل يصلح من كان سبباً للفتنة واختلاف المسلمين وإراقة دمائهم، لأن يكون خليفةً عن رسول رب العالمين؟
(1) وهذا الحديث موضوع الرسالة الثانية من الرسائل العشر.
(2) كذا، ولعله محدثات.
(3) تحفة الأحوذي 3 / 50.
(4) تحفة الأحوذي 3 / 50.
(5) كذا، ولعلّه: المتعصّبين.