إرسال النبيّ عليّاً
المطلب الخامس: في إرسال النبي عليّاً إلى بني جذيمة:
قال العلاّمة رحمه اللّه: «ثم أنفذ إليه بأمير المؤمنين عليه السلام لتلافي فارطه وأمره أن يسترضي القوم، ففعل» فلم يفهم ابن تيمية معنى هذا الكلام، أو فهمه وأراد التشويش عليه فقال:
«وأمّا قوله: إنه أمره أن يسترضي القوم من فعله. فكلام جاهل، فإنما أرسله لإنصافهم وضمان ما تلف لهم، لا لمجرّد الاسترضاء»(1).
ومتى قال العلامة: إنه أرسل إليهم لمجرّد الاسترضاء؟ فإن الإمام عليه السلام قد حمل إليهم ـ بأمر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ـ من المال ما ودى به لهم الدماء وما أصابهم من ضرر مالي… وهذا ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أئمة السيرة.
لكن مقصود العلامة رحمه اللّه من «استرضاء القوم» هو إرضاؤهم بأخذ الدية والتنازل عن المطالبة بالقود… وقد رضي القوم بذلك، لكن اجتمعت على رضاهم أسباب:
أحدها: براءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من عمل خالد مرّات عديدة وعلى رؤوس الأشهاد، وغضبه على خالد وإعراضه عنه، كما نصّ عليه في بعض الكتب.
والثاني: الأموال التي دفعت إليهم، حتى أن أمير المؤمنين عليه السلام أعطاهم أموالاً إضافية احتياطاً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
والثالث: حضور علي عليه السلام عند القوم وجهوده التي بذلها فيهم، فالنبي صلّى اللّه عليه وآله لم يرسل إليهم غيره، وهذا يدلّ على شدة اهتمامه بالأمر، فقد علم المسلمون كلّهم أن عليّاً عليه السلام كان من النبي بمنزلة رأسه من جسده وروحه من بدنه، فإذا أرسله إلى عمل أو قوم فكأنما قد حضر هو بنفسه.
وهكذا كان الأمر في الوقائع المشابهة، فإنه كان إذا أراد تهديد قوم هددهم بإرسال علي كما في قضية أهل مكة والطائف حيث قال: «والذي نفسي بيده، لتقيمنّ الصلاة ولتؤتن الزكاة، أو لأبعثن إليكم رجلاً مني ـ أو كنفسي ـ يضرب أعناقكم، ثم أخذ بيد علي».
وإذا أراد استرضاء قوم وتأليف قلوبهم وتحبيب نفوسهم، أرسل إليهم عليّاً، كما في واقعة بني جذيمة.
وإذا أراد إنذار قوم أرسل إليهم عليّاً، حتى أنه في تبليغ الانذار إلى أهل مكة أرسل أوّلاً أبا بكر، فجاءه الوحي بما معناه: هذا العمل كان عليك أو على رجل هو كنفسك وهو علي لا غيره، ولذا أرسل عليّاً خلف أبي بكر وعزله عمّا أمره به.
وهكذا كان علي عليه السلام يبادر إلى القيام بما يأمر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، كلّما تقاعس القوم عن الامتثال لأوامره أو تكاسلوا أو خالفوا..
فهذا مقصود العلاّمة رحمه اللّه، لأن خالداً قتل مسلمين برجل كافر قتل في الجاهليّة، فكان لهم أن يطالبوا بالقصاص، لكن النبي صلّى اللّه عليه وآله تبرّأ من فعله، وكذا المسلمون كلّهم، ثم استرضى القوم بواسطة علي أمير المؤمنين عليه السلام، حتى قبلوا الدية، وانتهى الأمر، بالحكمة المحمدية والجهود العلوية.
(1) منهاج السنّة 4 / 489.