وقال السندي: «وإنما كان المسح هو ظاهر الكتاب; لأن قراءة الجرّ ظاهرة فيه، وحمل قراءة النصب عليها بجعل النصب على المحلّ أقرب من حمل قراءة النصب، كما صرح به النحاة»(1).
وقال الشيخ إبراهيم الحلبي:«والصحيح أن الأرجل معطوفة على الرؤوس في القراءتين، ونصبها على المحلّ وجرّها على اللفظ»(2).
أقول:
ولنكتف بهذا القدر من تصريحات الأعلام بدلالة الآية المباركة بكلتا القراءتين على المسح دون الغسل، وأن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم كانوا يقولون بالمسح، وأن الدليل على القول بالغسل هو السنّة لا الكتاب.
لكنَّ جماعة من القائلين بالغسل لمّا علموا بأن رفع اليد عن دلالة (الكتاب) لا يكون إلا بدليل معتبر، وعلموا عدم دلالة (السنّة) على الغسل، ولا أقلّ من سقوطها للتعارض كما سنبين، حاولوا صرف الآية المباركة عن المسح.
كأن تكون قراءة النصب دالّة على المسح، بزعم أنها بقرينة الأخبار ظاهرة في الغسل عطفاً على (وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)، وتجعل بذلك راجحة على قراءة الجرّ الظاهرة في المسح(3).
لكنها محاولة يائسة، أما الأخبار فسنتكلّم عليها، وأما العطف المذكور، فقد نصّ غير واحد من الأئمة على بطلانه، وجعلوه من القبيح الذي ينزّه كتاب اللّه تعالى عن هذا التخريج(4).
وكأن يزعم بأن لفظ (المسح) مشترك، فلا دلالة لقراءة الجرّ أيضاً. قال القرطبي: «قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أن المسح والغسل واجبان جميعاً، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل. قلت: وهو الصحيح; فإن لفظ المسح مشترك، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل…»(5).
وهي محاولة كسابقتها، فالعيني أورد هذا الوجه وقال: «وفيه نظر»، وقال الصاوي: «وهو بعيد» وقال صاحب المنار: «وهو تكلّف ظاهر»(6).
وكما أفرط بعضهم فزعم عدم دلالة الآية بقراءة الخفض على المسح ـ مع أن ذلك متفق عليه بينهم، حتى اعترف به القائلون بدلالة قراءة النصب على الغسل(7) ـ ، بين قائل بالكسر على الجوار، كالعيني وأبي البقاء والآلوسي(8). لكن ردّه آخرون ونصّوا على أنه تأويل ضعيف جدّاً، وأنه قليل نادر مخالف للظاهر لا يجوز حمل الآية المباركة عليه، وأنه غلط عظيم، ونحو ذلك من الكلمات(9)… وبين قائل: بأن الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء، أي: وافعلوا بأرجلكم الغسل، ثم حذف الفعل وحرف الجرّ. وهذا لم أجده إلا من أبي البقاء(10) وقال أبو حيان: «هذا تأويل في غاية الضعف»(11).
(1) الحاشية على سنن ابن ماجة 1 / 88.
(2) غنية المتملي: 16.
(3) بداية المجتهد 1 / 15 ـ 16، أحكام القرآن لابن العربي المالكي 2 / 72.
(4) البحر المحيط 3 / 451، عمدة القاري في شرح البخاري 2 / 238، غنية المتملي: 16.
(5) تفسير القرطبي 6 / 96، وانظر: تفسير ابن كثير 2 / 27، البحر المحيط 3 / 451، تفسير الخازن 2 / 441.
(6) عمدة القاري 2 / 239، الصاوي على البيضاوي 1 / 270، تفسير المنار 6 / 233.
(7) المجموع في شرح المهذب 1 / 418، تفسير ابن كثير 2 / 27، فتح الباري 1 / 232.
(8) عمدة القاري 2 / 239، إملاء ما من به الرحمن 1 / 210، روح المعاني 6 / 75.
(9) البحر المحيط 3 / 451، تفسير الخازن 2 / 441، حاشية السندي على ابن ماجة 1 / 88، نيل الأوطار 1 / 209، غنية المتملي: 16، تفسير الرازي 11 / 161، النيسابوري 6 / 53، القرطبي 6 / 94، الشهاب على البيضاوي 3 / 221، معاني القرآن للأخفش 1 / 255، وغيرها.
(10) إملاء ما من به الرحمن 3 / 452.
(11) البحر المحيط 3 / 452.