2 ـ كيف كانت بيعة أبي بكر؟
ثم إن عمر بن الخطاب حكى لنا طرفاً من وقائع السقيفة، واشتملت خطبته على نقاط نتعرّض لها بقدر الحاجة:
1 ـ قول عمر: «خالف عنّا علي والزبير ومن معهما» فأقول:
أوّلاً: إن مقتضى الأحاديث الصحيحة، كقوله صلّى اللّه عليه وآله: «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار»(1) هو كون الحق مع علي في كلّ الأحوال، فكان على غيره من الأصحاب قاطبة متابعته وإطاعته.
وثانياً: إنه لم تكن المخالفة فقط، بل إنه عليه السلام كان يرى الأمر لنفسه، للنصوص الواردة في حقّه، ولأفضليّته من غيره بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على الإطلاق.
2 ـ قول أبي بكر: «وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيّهما شئتم» قال عمر: «فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا».
فإن هذا الكلام من أبي بكر دليل واضح على عدم تعيّنه للأمر، من اللّه ورسوله، وإلاّ لما أرجع إلى أحد الرجلين.
بل هو إقرار منه بعدم أفضليّته منهما، وقد تقرّر عند الجمهور ـ كما ذكر ابن تيمية أيضاً مراراً ـ لزوم أفضلية الإمام وقبح تقدّم المفضول.
وكذلك حاله عند سائر الأصحاب، فلم يكن عندهم دليلٌ على تعيّنه أصلاً، ولذا قال الحافظ: «قال القرطبي في المفهم: لو كان عند أحد من المهاجرين والأنصار نصٌّ من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على تعيّن أحد بعينه للخلافة، لما اختلفوا في ذلك ولا تعارضوا فيه. قال: وهذا قول جمهور أهل السنّة»(2).
3 ـ قول عمر: «ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل اللّه سعد بن عبادة» وفي رواية الطبري:: «فقال عمر: قتله اللّه، إنه منافق»(3).
وفيه نقاط:
الأولى: مخالفة سعد بن عبادة وأتباعه.
والثانية: دعاء عمر بن الخطاب عليه.
والثالثة: كون سعد منافقاً.
وهنا مطلبان:
أحدهما: المناقب التي يذكرونها لسعد بن عبادة، فإنها تكذّب دعوى نفاقه، وتردّ على الدعاء عليه.
والثاني: هل إن سعداً بايع أبا بكر فيما بعد أو أنه مات ولم يبايع؟
وسيأتي بيان المطلبين، في الكلام على احتجاجهم لإمامة أبي بكر بالإجماع من الصّحابة، فانتظر.
4 ـ قول عمر: «فكثر اللّغط وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة…».
يدلُّ على عدم كون بيعة أبي بكر عن مشورة من المسلمين، وقد صرّح من قبل بخلاف علي والزبير ومن معهما… ولذا، فقد نصّ غير واحد من أئمة القوم على أن الإمامة تثبت ببيعة الواحد والاثنين، لأنّ خلافة أبي بكر انعقدت ببيعة وحده أو هو وأبو عبيدة بن الجراح(4).
5 ـ قول عمر: «فمن بايع رجلا ً على غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّةً أن يقتلا».
يدلّ بكلّ وضوح على بطلان الإمامة والخلافة بلا مشورة من المسلمين، وكلمات العلماء صريحةٌ في دلالته على هذا المعنى.
وبيعة أبي بكر لم تكن عن مشورة من المسلمين.
أليست هذه الكلمات قدحاً في خلافة أبي بكر؟
قال التفتازاني: «كيف يتصوّر منه القدح في إمامة أبي بكر، مع ما علم من مبالغته في تعظيمه وفي انعقاد البيعة له…»؟
فما هو الجواب إذن؟
وهذا أحد مواضع اضطراب القوم وتحيّرهم الشديد في حلّ الإشكال:
منهم: من اكتفى بالقول: «كان ذلك لضرورة داعية إليه»(5).
ومنهم: من قال: «فمعناه: إن الإقدام على مثله بلا مشاورة الغير وتحصيل الاتفاق منه مظنّة للفتنة العظيمة، فلا يقدمنّ عليه أحد، على أني أقدمت عليه فسلمت وتيسّر الأمر بلا تبعة»(6).
وأنت ترى أن لا محصَّل لمثل هذه الكلمات… .
ومنهم: من قال: «معناه: إن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريّث ولا انتظار، لكونه كان متعيّناً لهذا الأمر، وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه وتقديم رسول اللّه له على سائر الصحابة، أمراً ظاهراً معلوماً، فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريّث، بخلاف غيره»(7).
لكن دعوى وجود النصوص على تعيّن أبي بكر، باطلةٌ مردودة، فقد تقدّم ما هو صريح في أن لا نصَّ على إمامة أبي بكر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وبذلك صرّح كبار علمائهم أيضاً(8) وحتى ابن تيمية نفسه(9).
ومن هنا ترى أن بعضهم يدّعي «القرائن» ولا يقول «النصوص».
ومنهم من يقول: «واستند من قال إنه نصّ على خلافة أبي بكر بأصول كليّة وقرائن حاليّة، تقضي بأنه أحق بالإمامة وأولى بالخلافة»(10).
ومنهم من يعيّن القرينة فيقول: «وبيعة أبي بكر وإن كانت فجأةً بسبب مناقشة الأنصار وعدم وجود فرصة للمشورة، فقد حلّت محلّها وصادفت أهلها، للدلائل الدالّة على ذلك والقرائن القائمة على ما هنالك، كإمامة الصلاة ونحوها»(11).
ومنهم من يقول: «أشار إشارة قويّة ـ يفهمها كلّ ذي لبّ وعقل ـ إلى الصدّيق»(12).
فانظر إلى التناقضات في الكلمات!
أمّا النصّ فمفقود، والمدّعي له كاذب.
وأمّا المشورة، فغير حاصلة باعترافهم.
وأمّا الإجماع، فدعوى باطلة، وسيأتي التفصيل في محلّه.
وأمّا القرائن المزعومة، فعمدتها صلاته في مرض النبي صلّى اللّه عليه وآله، ولكن قد ثبت أنها لم تكن بأمر منه، وأنه قد حضرها بنفسه وعزل أبا بكر عنها… وعلى فرض التسليم، فلا قرينيّة لذلك بالنسبة إلى الإمامة العامّة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله. وسيأتي الكلام حول هذه الصّلاة في محلّه إن شاء اللّه.
ولعلّه من هنا تنزّل ابن كثير، فادّعى الإشارة القويّة المفهمة التي يفهمها كلّ ذي لبّ، ولكن كيف لم يفهمها علي والزهراء والزبير ومن معهم وسعد بن عبادة ومن تبعه وسائر الأنصار، فمنهم من مات ولم يبايع أصلاً، ومنهم من هدّد بالقتل فبايع مكرهاً…؟ اللّه يعلم!!
(1) مجمع الزوائد 7 / 235.
(2) فتح البارى 7 / 26.
(3) تاريخ الطبري 2 / 459.
(4) الأحكام السلطانية لأبي يعلى: 23، شرح المواقف 8 / 352، شرح المقاصد 5 / 254.
(5) ابن روزبهان. انظر دلائل الصّدق 3 / 18.
(6) شرح المواقف 8 / 358.
(7) ابن تيمية في منهاج السنة 5 / 470.
(8) شرح المواقف 8 / 354، السيرة النبوية لابن كثير 4 / 496.
(9) منهاج السنّة 5 / 470.
(10) ابن حجر في فتح الباري 7 / 26.
(11) مختصر التحفة: 275.
(12) ابن كثير في السيرة النبوية 4 / 496.