الشرح:
اعترض عليه ابن تيمية قائلاً: «الجواب من وجوه:
أحدها: أن ذكر الخلفاء على المنبر كان عهد عمر بن عبد العزيز، بل قد روي أنه كان على عهد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. وحديث ضبَّة بن محصن من أشهر الأحاديث، فروى الطلمنكي من حديث ميمون بن مهران قال: كان أبو موسى الأشعري إذا خطب بالبصرة يوم الجمعة ـ وكان والياً ـ صلّى على النبي صلّى اللّه عليه وآله، ثم ثنى بعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يدعو له. فقام ضبَّة بن محصن العنزي فقال: أين أنت من ذكر صاحبه قبله تفضّله عليه ـ يعني أبا بكر ـ …؟ ثم قعد. فلما فعل ذلك مراراً أمحكه أبو موسى، فكتب أبو موسى إلى عمر رضي اللّه عنه أن ضبَّة يطعن علينا ويفعل. فكتب عمر إلى ضبَّة يأمره أن يخرج إليه، فبعث به أبو موسى، فلمّا قدم ضبَّة المدينة على عمر رضي اللّه عنه قال له الحاجب: ضبَّة العنزي بالباب، فأذن له، فلما دخل عليه قال: لا مرحباً بضبَّة ولا أهلاً. قال ضبَّة: أما المرحب فمن اللّه، وأما الأهل فلا أهل ولا مال، فبم استحللت إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبت، ولا شيء أتيت؟ قال: ما الذي شجر بينك وبين عاملك؟ قلت: الآن أخبرك… قال: فاندفع عمر باكياً وهو يقول: أنت واللّه أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر اللّه لك؟ قلت: غفر اللّه لك يا أمير المؤمنين. ثم اندفع باكياً يقول: واللّه لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر…».
قال: «الوجه الثاني: إنه قد قيل إن عمر بن عبد العزيز ذكر الخلفاء الأربعة لمَّا كان بعض بني أمية يسبّون علياً، فعوّض عن ذلك بذكر الخلفاء والترضّي عنهم ليمحو تلك السنة الفاسدة».
الوجه الثالث: «أن ما ذكره من إحداث المنصور وقصده بذلك باطل، فإن أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما تولّيا الخلافة قبل المنصور وقبل بني أمية، فلم يكن في ذكر المنصور لهما إرغام لأنفه ولأنوف بني علي، إلا لو كان بعض بني تيم أو بعض بني عدي منازعيهم في الخلافة، ولم يكن أحد من هؤلاء ينازعهم فيها.
الوجه الرابع: «أن أهل السنّة لا يقولون إن ذكر الخلفاء في الخطبة فرض..».
قال: «الوجه الخامس: إنه ليس كلّ خطباء السنّة يذكرون الخلفاء في الخطبة، بل كثير من خطباء السنّة بالمغرب وغيرها يذكرون أبا بكر وعمر وعثمان ويربّعون بذكر معاوية ولا يذكرون عليّاً. قالوا: هؤلاء اتفق المسلمون على إمامتهم دون علي. فإن كان ذكر الخلفاء بأسمائهم حسناً فبعض أهل السنّة يفعله، وإن لم يكن حسناً فبعض أهل السنّة يتركه. فالحق على التقديرين لا يخرج عن أهل السنّة».
الوجه السادس: «أن يقال: إن الذين اختاروا ذكر الخلفاء الراشدين على المنبر يوم الجمعة إنما فعلوه تعويضاً عن سبّ من يسبّهم ويقدح فيهم… فإنه قد صحّ عن النبي صلّى اللّه عليه وآله أنه قال: عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور; فإن كلّ بدعة ضلالة. والأحاديث في ذكر خلافتهم كثيرة. فلمَّا كان في بني أمية من يسبّ عليّاً ـ رضي اللّه عنه ـ ويقول: ليس هو من الخلفاء الراشدين. وتولّى عمر بن عبد العزيز بعد أولئك فقيل: إنه أوّل من ذكر الخلفاء الراشدين الأربعة على المنبر…». انتهى كلامه(1).
أقول:
أمّا قوله: «إن ذكر الخلفاء على المنبر كان على عهد عمر بن عبد العزيز» فيبطله وجوه:
الأول: إن أحداً لم يذكر هذا الذي ادّعاه الرجل بصيغة الجزم هنا ونسبه إلى (قيل)في الوجهين الثاني والسادس، ولو كان لبان مع كثرة الدّواعي على نقله.
والثاني: إن الكلام في ذكر الخلفاء في الخطبة، بأن يكون من فروضها أو سننها لا (على المنبر) مطلقاً.
والثالث: إن المعروف عن عمر بن عبد العزيز، كما في الكامل لابن الأثير وتاريخ الخلفاء للسيوطي، أنه أمر بجعل قوله تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلآخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالآيمَانِ) أو قوله تعالى: (اِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالآحْسَانِ) ضمن الخطبة بدلاً عمّا أمر به معاوية من التعرّض لأمير المؤمنين عليه السلام فيها بالسبّ واللّعن(2)، الذي فعله عامّة بني أمية وعمّالهم ومن والاهم، لا كما يقول الرجل: «كان في بني أمية من يسبّ عليّاً…».
وإن شئت فراجع: الإصابة وأسد الغابة، لترى الخبر عن شهر بن حوشب أنه قال: «أقام فلان خطباء يشتمون عليّاً رضي اللّه عنه وأرضاه ويقعون فيه..»(3).
وفي العقد الفريد: «كتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر»(4).
وأخرج مسلم وغيره أنه أمر سعد بن أبي وقاص بسبّه فامتنع(5).
وقد ذكر المؤرخون كأبي الفداء والطبري وابن كثير وابن الأثير وغيرهم، أن الحسن بن علي عليه السلام اشترط في الصلح مع معاوية فيما اشترط: «أن لا يشتم عليّاً»(6) لكن معاوية لم يف بشيء من ذلك.
وفي معجم البلدان: «لعن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه على منابر الشرق والغرب، ولم يلعن على منبر سجستان إلا مرة، وامتنعوا إلى بني أمية حتى زادوا في عهدهم: وأن لا يلعن على منبرهم أحد… وأيّ شرف أعظم من امتناعهم من لعن أخي رسول اللّه على منبرهم، وهو يلعن على منابر الحرمين مكة والمدينة..»(7).
فهذا ما فعله عمر بن عبد العزيز بدلاً عمّا فعله معاوية وبنو أمية.. تجاه أمير المؤمنين عليه السلام وسبّه ولعنه. أما من سبّ عثمان ومعاوية فكان يجلده كما ذكر ابن تيمية نفسه(8).
وأمّا قوله: «بل قد روي أنه كان على عهد عمر بن الخطاب» فيبطله وجوه:
الأول: إن هذا الحديث الذي وصفه بكونه «من أشهر الأحاديث» غير مخرج في شيء من الصحاح ولا السنن ولا المسانيد، ولا في شيء من الكتب المعتبرة عندهم المشهورة بين الناس، فالعجب منه كيف يردّ الحديث المعتبر إذا كان يضرّه بحجة أنه ليس في الصحيحين، وسيأتي قريباً نصّ كلامه في أحد الموارد، ويعتمد هنا على هذا الحديث ويورده بطوله، وحاله كما عرفت؟
والثاني: إن ما اشتمل عليه من الفضائل الموضوعة لأبي بكر يؤكّد أنه حديث مكذوب.
والثالث: إنه على فرض صحّته يشتمل على مطاعن لعمر وأبي موسى الأشعري.
والرابع: إنه بغض النظر عن كلّ ما ذكر، لا يدلّ على أن ذكر الخلفاء كان على عهد عمر من فروض أو سنن الخطبة في مساجد المسلمين ومنابرهم، بل هو شيء كان يفعله أبو موسى وحده، ولم يكن معهوداً بين المسلمين.
وأمّا ما ذكره في الوجه الرابع، فيردّه: أن البدعة بذكره في الخطبة حاصلة وإن لم تكن على سبيل الفرض.
وأمّا ما ذكره في الوجه الخامس عن كثير من خطبائهم بالمغرب.. فإنه ـ إن صحّ ـ ليس إلا تعصباً في بدعة، وبدعة عن تعصب، وهل يجوّز الرجل حسناً فيما كان يفعله أولئك الخطباء حتى يكون الحق على التقديرين غير خارج عن أهل السنّة؟!
(1) منهاج السنّة 4 / 155 ـ 164.
(2) تاريخ الخلفاء: 243.
(3) الإصابة 1 / 278، أسد الغابة 1 / 134.
(4) العقد الفريد 2 / 301.
(5) صحيح مسلم 7 / 120 ـ 121.
(6) لاحظ فيها حوادث سنة: 41.
(7) معجم البلدان 3 / 191 «سجستان».
(8) الصارم المسلول: 272.