الشرح:
قال ابن تيمية: «هذا الحديث لم يروه الجماعة كلّهم، ولا هو في الصحيحين، ولا هو في السنن، بل هو مرويّ في الجملة. وبتقدير صحّته وثبوته، فمن المعلوم أن هذا الحديث لم يرد به أن أبا ذر أصدق من جميع الخلق، فإن هذا يلزم منه أن يكون أصدق من النبي ومن سائر النبيين ومن علي بن أبي طالب، وهذا خلاف إجماع المسلمين كلّهم من السنّة والشيعة.
فعلم أن هذه الكلمة معناها: أن أبا ذر صادق، ليس غيره أكثر تحرياً للصّدق منه، ولا يلزم إذا كان بمنزلة غيره في تحرّي الصدق أن يكون بمنزلته في كثرة الصّدق والتصديق بالحق وفي عظم الحق الذي صدق فيه وصدّق به، وذلك أنه يقال: فلان صادق اللّهجة إذا تحرّى الصّدق، وإن كان قليل العلم بما حدّث به الأنبياء.
والنبي لم يقل: ما أقلّت الغبراء أعظم تصديقاً من أبي ذر، بل قال: أصدق لهجة، والمدح للصدّيق الذي صدّق الأنبياء ليس بمجرّد كونه صادقاً بل في كونه مصدّقاً للأنبياء، وتصديقه للنبي هو صدق خاص، فالمدح بهذا التصديق الذي هو صدق خاصّ نوعٌ، والمدح بنفس كونه صادقاً نوع آخر، فكلّ صدّيق صادق وليس كلّ صادق صدّيقاً.
فالصدِّيق قد يراد به الكامل في الصّدق، وقد يراد به الكامل في التصديق، والصدِّيق ليس فضيلته في مجرد تحرّي الصدق، بل في أنه علم ما أخبر به النبي جملة وتفصيلاً، وصدّق ذلك تصديقاً كاملاً في العلم والقصد والقول والعمل، وهذا القدر لم يحصل لأبي ذر ولا لغيره.
فإن أبا ذر لم يعلم ما أخبر النبي كما علمه أبو بكر، ولا حصل له من التصديق المفصل كما حصل لأبي بكر، ولا حصل عنده من كمال التصديق معرفة ولا حال كما حصل لأبي بكر، فإن أبا بكر أعرف منه وأعظم حبّاً للّه ورسوله منه وأعظم نصراً للّه ورسوله منه، وأعظم جهاداً بنفسه وماله منه، إلى غير ذلك من الصفات التي هي كمال الصدّيقية.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: صعد رسول اللّه أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: أسكن أحد، وضرب برجله وقال: ليس عليك إلا نبي وصدّيق وشهيدان.
وفي الترمذي وغيره عن عائشة قالت: يا رسول اللّه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف؟ قال: لا يا ابنة الصدّيق، ولكنه الرجل يصوم ويتصدّق ويخاف أن لا يقبل منه»(1).
(1) منهاج السنّة 4 / 264 ـ 268.