الشرح:
أجاب عنه ابن تيمية بقوله: «الذين نقلوا الوضوء عن النبي صلّى اللّه عليه وآله قولاً وفعلاً، والذين تعلّموا الوضوء منه، وتوضأوا على عهده، وهو يراهم ويقرُّهم عليه ونقلوه إلى من بعدهم، أكثر من الذين نقلوا لفظ هذه الآية… حتى نقلوا عنه من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه قال: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار.
مع أن الغرض إذا كان مسح ظهر القدم كان غسل الجميع كلفة لا تدعو إليها الطبائع. فإن جاز أن يقال إنهم كذبوا وأخطأوا فيما نقلوه عنه من ذلك، كان الكذب والخطأ فيما نقلوه من لفظ الآية أقرب إلى الجواز. وإن قيل: بل لفظ الآية ثبت بالتواتر الذي لا يمكن الخطأ فيه، فثبوت التواتر في لفظ الوضوء عنه أولى وأكمل.
ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنّة، فإن المسح جنس تحته نوعان: الإسالة وغير الإسالة، كما تقول العرب: تمسّحت للصّلاة. فما كان بالإسالة فهو الغسل. وإذا خصّ أحد النوعين باسم الغسل فقد يخصّ النوع الآخر باسم المسح. فالمسح يقال على المسح العام الذي يندرج فيه الغسل، ويقال على الخاص الذي لا يندرج فيه الغسل… .
وفي القرآن ما يدلّ على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل، بل المسح الذي الغسل قسم منه. فإنه قال: (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ولم يقل إلى الكعاب، كما قال: (إِلَى الْمَرَافِقِ). فدلّ على أنه ليس في الرجل كعب واحد كما في كلّ يد مرفق واحد، بل في كلّ رجل كعبان، فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين، وهذا هو الغسل، فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين.
وفي ذكره الغسل في العضوين الأوّلين والمسح في الآخرين التنبيه على أن هذين العضوين يجب فيهما المسح العام. فتارة يجزي المسح الخاصّ كما في مسح الرأس والعمامة والمسح على الخفين، وتارة: لابدّ من المسح الكامل الذي هو الغسل كما في الرجلين المكشوفتين.
وقد تواترت السنّة عن النبي صلّى اللّه عليه وآله بالمسح على الخفين وغسل الرجلين، والرافضة تخالف هذه السنّة المتواترة… .
وفي ذكر المسح على الرجلين تنبيه على قلّة الصبّ في الرجل، فإن السّرف يعتاد فيهما كثيراً… .
وهذه الآية فيها قراءتان الخفض والنصب، فالذين قرأوا بالنصب قال غير واحد منهم: أعاد الأمر إلى الغسل. أي: وامسحوا برؤوسكم، واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين كالآيتين. ومن قال أنه عطف على محلّ الجارّ والمجرور يكون المعنى: وامسحوا برؤوسكم وامسحوا أرجلكم إلى الكعبين… .
وفي الجملة: فالقرآن ليس فيه نفي إيجاب الغسل، بل فيه إيجاب المسح. فلو قدّر أن السنة أوجبت قدراً زائداً على ما أوجبه القرآن، لم يكن في هذا رفعاً لموجب القرآن، فكيف إذا فسّرته وبينّت معناه، وهذا مبسوط في موضعه»(1).
أقول:
لا يخفى الاضطراب في كلام الرجل على المتأمّل فيه، بل هو في الحقيقة اعتراف بالبدعة ومخالفة نصّ القرآن، وإلا:
فأيّ معنى لقوله: «الذين نقلوا الوضوء عن النبي… أكثر من الذين نقلوا لفظ هذه الآية»؟
وأيّ وجه لدعوى: «أن المسح جنس تحته نوعان: الإسالة وغير الإسالة…» مع أن كلّ عربي يفهم التباين بين (الغسل) و (المسح)؟
ولماذا هذا الاستحسان بأنه: «في ذكر المسح على الرجلين تنبيه على قلّة الصبّ في الرجل…»؟
كلّ هذا لا داعي له إلا توجيه البدعة وتأكيدها.. بعد الاعتراف بأن القرآن «فيه إيجاب المسح»… فهو معترف بما قال العلاّمة… .
ولو كان الرجل فقيهاً أو متفقهاً لبحث عن المسألة بحثاً علميّاً مستنداً إلى الكتاب والسنة اللّذين هما المعتمد في جميع البحوث، لا سيما الأحكام الشرعية، فإنها مستنبطة منهما وهما المرجع فيها، وهذه المسألة من هذا القبيل.
(1) منهاج السنّة 4 / 176.