قول بعضهم بكفره و لعنه
والقول الآخر: هو الحكم بكفر يزيد.
وقد كان هذا الشعر، وكذا الشعر الآخر الذي نقله ابن تيمية، وهو قوله: «لما بدت تلك الحمول وأشرفت…» إلى آخر البيتين.. من الأدلة الدالّة على كفره وإلحاده في الدين… وابن تيمية ما أجاب عن ذلك بشيء، غير أنه قال ببطلان القول بكفره وأنه «يعلم بطلانه كلّ عاقل».
وقد فصّل جماعة من أئمة القوم الكلام في هذا المقام، ونحن نكتفي هنا بذكر خلاصة ما قاله الشهاب الآلوسي بتفسير قوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي اْلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) الذي نقلناه بطوله سابقاً:
«واستدلّ بها أيضا على جواز لعن يزيد ـ عليه من اللّه تعالى ما يستحق ـ .
نقل البرزنجي في الإشاعة والهيتمي في الصواعق: إن الإمام أحمد لما سأله ولده عبد اللّه عن لعن يزيد قال: كيف لا يلعن من لعنه اللّه تعالى في كتابه؟ فقال عبد اللّه: قد قرأت كتاب اللّه عز وجلّ فلم أجد فيه لعن يزيد. فقال الإمام: إن اللّه تعالى يقول (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي اْلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) الآية. وأي فساد وقطيعة أشدّ مما فعله يزيد. انتهى.
وعلى هذا القول لا توقف في لعن يزيد لكثرة أوصافه الخبيثة وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه، ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكة، فقد روى الطبراني بسند حسن: اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل.
والطامة الكبرى ما فعله بأهل البيت ورضاه بقتل الحسين ـ على جدّه وعليه الصّلاة والسلام ـ واستبشاره وإهانته لأهل بيته مما تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحاداً، وفي الحديث: ستة لعنتهم ـ وفي رواية: لعنهم اللّه وكلّ نبي ـ مجاب الدعوة ـ : المحرّف لكتاب اللّه ـ وفي رواية: الزائد في كتاب اللّه ـ والمكذب بقدر اللّه، والمتسلّط بالجبروت ليعزّ من أذلّ اللّه ويذلّ من أعزّ اللّه، والمستحلّ من عترتي، والتارك لسنّتي.
وقد جزم بكفره وصرّح بلعنه جماعة من العلماء، منهم: الحافظ ناصر السنة ابن الجوزي، وسبقه القاضي أبو يعلى، وقال العلامة التفتازاني: لا نتوقّف في شأنه بل في إيمانه، لعنة اللّه تعالى عليه وعلى أنصاره وأعوانه. وممن صرّح بلعنه: الجلال السيوطي عليه الرحمة.
وفي تاريخ ابن الوردي وكتاب الوافي بالوفيات: إن السبي لمّا ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذريّة علي والحسين ـ رضي اللّه عنهما ـ والرؤوس على أطراف الرماح وقد أشرفوا على ثنية جيرون، فلمّا رآهم نعب غراب فأنشأ يقول:
لمّا بدت تلك الحمول… البيتين.
يعني: إنه قتل بمن قتله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر، كجدّه عتبة وخالد ولد عتبة وغيرهما. وهذا كفر صريح. فإذا صح عنه فقد كفر به، ومثله تمثّله بقول عبد اللّه بن الزبعرى قبل إسلامه:
ليت أشياخي… الأبيات»(1).
وعلى الجملة: فالعلماء في يزيد على قولين: «تمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقدوا بإمامته» وكان منهم: ابن العربي المالكي، وابن تيمية، عليهما من اللّه ما يستحقان.
وجماعة كبيرة منهم يقولون بكفره واستحقاقه اللعن والعذاب، وكان منهم: أبو يعلى الفراء وابن الجوزي والتفتازاني والسيوطي والآلوسي والشوكاني الذي قال: «لقد أفرط بعض أهل العلم كالكرامية ومن وافقهم في الجمود على أحاديث الباب، فحكموا بأن الحسين السبط ـ رضي اللّه عنه وأرضاه ـ باغ على الخمير السكير الهاتك لحرم الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية لعنهم اللّه. فيا للعجب من مقالات تقشعر الجلود ويتصدع من سماعها كلّ جلمود»(2). وهو الذي رواه ابن الجوزي والبرزنجي وابن حجر صاحب الصواعق عن أحمد بن حنبل.
وبهذا يتبين القول في قتل مولانا الإمام الحسين عليه السلام. فمن قال بإمامة يزيد وحرمة مخالفته قال بأنه قتل بحق، وهذا ما صرح به ابن العربي وهو عقيدة ابن تيمية وإن لم يصرح كتصريحه، ومن قال بكفر يزيد وضلاله جعل قتل الحسين وآله «الطامة الكبرى» سواء في ذلك الشيعة الإمامية القائلين بأنه «هو الإمام الواجب طاعته» وغيرهم.. وبذلك يظهر ما في كلام ابن تيمية من الخلط والغلط.
وأمّا ما ذكره من أن الإمام عليه السلام: «لمّا بلغه ما فعل بابن عمه…» فكذب آخر من أكاذيب هذا المفتري، ولا يخفى ما في كلمته «إلى يزيد ابن عمه» من التدليس والتلبيس!! ذلك أن الإمام عليه السلام كان عازماً على الشهادة، وقد أعلن ذلك وصرّح به في غير موطن، في أخبار كثيرة رواها الخاصة والعامة.
ومما أخرجه ابن عساكر والذهبي وابن كثير وغيرهم قوله عليه الصلاة والسلام: «واللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة ـ وأشار إلى قلبه الشريف ـ من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط اللّه عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من فرم الأمة»(3).
بل لقد أخبر جدّه وأبوه عن استشهاده عليه السلام وكانا يبكيان، والأخبار بذلك أيضاً كثيرة جدّاً.
ولنفصّل الكلام في ذلك ردّاً على زعم ابن تيمية: أن الحزن والبكاء وإنشاد المراثي على الحسين عليه السلام بدعة أحدثها الشيطان!! فنقول:
إن أراد: أن الحزن والبكاء مطلقاً بدعة من الشيطان، فيردّه بكاء النبي صلّى اللّه عليه وآله على ولده إبراهيم عليه السلام كما في كتاب البخاري، وبكاؤه على جعفر وزيد كما بترجمة زيد من كتاب الإستيعاب، وبكاؤه يوم ماتت إحدى بناته، كما في كتاب البخاري كذلك، وبكاؤه ـ والحاضرين معه ـ عند سعد، كما في باب البكاء عند المريض من كتاب البخاري، وباب البكاء على الميت من كتاب مسلم.
وأخرج أحمد أنه لما رجع من أحد، فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن قال ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ : «ولكن حمزة لا بواكي له» فجعلن يبكين ويندبن حمزة(4).
ففي هذا الحديث تقرير للبكاء وأمر به أيضاً… .
(1) روح المعاني 26 / 72.
(2) نيل الأوطار 7 / 199.
(3) تاريخ ابن كثير 8 / 169، تاريخ دمشق 14 / 216، تاريخ الإسلام 2 / 345 وغيرها.
(4) مسند أحمد 2 / 40.